وصل الرجل إلى شارعه في مدينة داريا, رأى منزله على مرمى البصر, فانشرح صدره, وانفرجت أساريره, فشد سرعته قبل أن تفاجئه إحدى الجور الخبيثة, المتربصة بأمثاله من سكان الحي, فانقلبت دراجته, ووقع الرجل.
الحمد لله جاءت الحادثة على خير لأنه بقي على قيد الحياة بالرغم من كسر عموده الفقري وإصابته بالشلل.
القصة ليست من كتاب حكايا قبل النوم. وليست للتندر, إذ أنها فعلا قصة حقيقية حصلت منذ أسبوعين في حي المعامل في مدينة داريا, الحي الذي تعرض للحفر, والتحقير من أجل جميع الخدمات المعروفة وغير المعروفة, فقد حفر لأول مرة منذ أربعة أعوام, وخلال ذلك العام حفر الحي لأكثر من مرة, ثم توقف العمل, دون تعبيده, ليعاد حفره منذ عامين وبالضبط بداية صيف 2004 ليصبح أشبه بمكب للحصى ومخلفات البناء بالرغم من أنه شارع رئيسي وحيوي.
في المخططات الحديثة للمدينة يعتبر هذا الحي المدخل الرئيسي للمدينة من اتجاه القدم واتوستراد درعا.
يشتهر الشارع بمعارض الموبيليا والمفروشات, ليست كل المفروشات, بل غرف النوم حصرا, وهذه الحفريات أثرت كثيرا على حركة البيع والشراء ليس فقط لأن الناس لم يعودوا يمروا من هنا, بل هناك أسباب أخرى يشرحها لؤي عيواظ صاحب أحد المعارض بالقول:
( أصبحنا نبيع غرفة النوم بسعر المستعمل, لأن شكلها مع الغبار يوحي بأنها مستعملة, ولم نعد نحن من يفرض سعر القطعة بل نبيعها بأي سعر يعرض علينا, لأننا نريد أن نصرف بضاعتنا التي نخسرها يوميا بسبب العطب الذي يطالها من جراء مسح الغبار عنها يوميا لأكثر من مرة وكما تعلمين قطعة الخشب الملمع لا يناسبها المسح اليومي بالماء ولأكثر من مرة ولا نستطيع الا ان نمسحها.)
قاطعه سامر مسالخي وهو صاحب صالات عرض أيضا:( طبعا لازم نمسحها لأنه لو تركناها ساعتين دون مسح أتحدى أي شخص يستطيع أن يميز ما هو لون أي من القطع المعروضة, لأنها جميعها ستصبح بلون الغبار. كل بضاعتنا أصبح شكلها كأنها مستعملة ومنها كثير من القطع لم يعد هناك أمل من بيعها لأن الغبار عشش بعمق الخشب. نحن خسرنا ثمن الخشب وخسرنا ثمن تفصيله ولم نعد نحصل حتى على أجر يومي يبقينا مستمرين في عملنا.)
أحد الحاضرين والذي يعمل في نفس المهنة قالها بصوت عال وانصرف نزقا:( والله العظيم حرام أنا سكرت المحل وعم دور على شغل تاني, كل عمرنا ما منعرف غير الموبيليا, شو بدنا نشتغل هلأ والله حرام)
لم أستغرب حديث الرجال, بعد أن رأيت قطع المفروشات المعروضة في محالهم, ولم أستغرب العطب الذي حل بالخشب في مثل هذا الحي الذي ما إن تطأه حتى تظن بأنك ابتعدت عن سياق الحياة المدنية كليا وخرجت من المدنية والزمن معا.
في الشارع العريض المحفور أمام معارض الموبيليا فاجأتني إحدى السيدات تشكو لي ما حل بيديها من كثرة العمل حتى تحافظ على نظافة دارها, السيدة رويدة بلاقسة: (عندي عشرة أولاد, لا أستطيع أن أسمح لهم بالخروج إلى الشارع أبدا. أشطف داري أربع مرات يوميا وفي أيام الريح أكثر من ذلك, وهذا يضاعف فاتورة المياه, ويرهقني ويرهق بناتي معي لأننا نعمل طوال اليوم على التنظيف فقط فينقضي نهاري دون أن أفعل أي شيء سوى الطبخ والتنظيف. أليس من الظلم أن تكون حياتنا مختصرة بالتنظيف فقط, كل البيوت تستهلك علبة واحدة من مسحوق الغسيل شهريا, نحن في الحي نستهلك أكثر من علبتين في الشهر. ويقولون لنا في التلفاز وفروا في المياه , ويعقدون المحاضرات والندوات عن ضرورة التوفير باستخدام المياه, نحن نستهلك أربعة أضعاف من استهلاك أي أسرة عادية من المياه بسبب التنظيف).
سيدة أخرى أكدت بأن البيوت تحولت لسجن للأطفال الذين لا يمكنهم اللعب في الطريق بسبب الحفر.
الطفل عمر خاطبني وكأنني جنية الامنيات قال:(بحب يكون عنا شارع لونه أسود.... يعني مزفت, و... له رصيف,و..... بحب أقدر اركض على الرصيف و.... بحب يكون متل الشوارع يلي بشوفهم بالتلفزيون).
في مدن مثل مدننا, حيث البناء العشوائي, والعيش العشوائي, والتخطيط العشوائي, والتكاثر العشوائي, لا مكان للعب الأطفال الا في الشارع.
ابو راتب بلاقسة اقترح على البلدية أن يعبد الشارع من أمام داره إلى أول الطريق على نفقته الشخصية لكن البلدية رفضت ذلك وقالوا له لو أردت أن تدعم البلدية في التعبيد تبرع بالمبلغ للعمل الشعبي لكن السيد أبو راتب رفض التبرع لأنه لا يريد أن يتبرع بالمبلغ ليعبد به طريق آخر في منطقة أخرى.
حتى حرفة الحدادة التي لاتحتاج لنظافة من نوع خاص ولاتعتمد على العرض الجميل أمام الزبائن تضررت أيضا لأن الزبائن لم تعد تمر من هذا الشارع أبدا وهذا ما أكده الحرفي علاء طويلة مبينا أن الشارع يصل بين داريا واستراد درعا وقد كان شارعا حيويا للغاية قبل أن يحفر, وهو المدخل الجديد للبلد لكن الحفريات المستمرة جعلت تعرض عن المرور فيه ما أدى إلى تراجع العمل في منشأته فلم يعد هناك أي حركة تجارية فيه.
في كل بلدة من بلدنا الجميل تستطيع أن نعرف أين يسكن رئيس البلدية أو أي مسؤول آخر مهما صغر حجم مسؤوليته, الوصفة ليست صعبة على الاطلاق فالشارع الاكثر ترتيبا هو الشارع الذي يقطنه ذلك المسؤول أو الحديقة الوحيدة التي تكون في البلدة غالبا ما تطل عليها شرفات منزل المسؤول, أما المفارقة هنا, فان هذا الحي الذي يفتقر لأدنى أسباب الرفاهية يقطن فيه منذ الحفر وقبل الحفر وحتى اليوم رئيس البلدية السابق السيد عبد الرحمن بيرقدار, ما جعلني أتساءل وباستغراب: (أيعقل أن يكون رئيسا للبلدية ويترك شارعه على هذا الحال, لابد أن زمن المعجزات قد عاد.)
لكنني اكتشفت لا حقا ان القصة ليست من باب المعجزة لأن السيد عبد الرحمن ظل طوال أربع السنوات كاملة وقبل أن يستلم مهمته في رئاسة البلدية أي منذ أن كان نائبا لرئيس مجلس البلدة وعضو في المكتب التنفيذي كان متابعا لقضية انهاء العمل في تعبيد الشارع ولكن القصة اعقد من ذلك يقول السيد بيرقدار:( أقطن في هذا الحي منذ عام 1973 وهو من أقدم الاحياء العشوائية في داريا, عندما كنت رئيسا للبلدية لم يكن يعنيني أن أعمل لاصلاح الشارع لأنني أسكن فيه, بقدر ما كان يعنيني أن أنهي الطريق بشكل نهائي بحيث تنتهي بنيته التحتية كلها حتى لا يحفر من جديد بعد مدة مهما طالت أو قصرت. منذ سنوات قليلة دخل الحي ضمن المخطط التنظيمي,ولوحظ الشارع على ان يكون عرضه 20 مترا كمدخل رئيسي لداريا.
ولكن مشكلة الشارع كما أوضح السيد بيرقدار: (المشكلة تتلخص بأن ميلانه عكس الصرف الصحي ( جيولوجيا) وهذا ما كان يؤخر العمل فيه بسبب نقص الدراسات, ومع توالي رؤساء المجالس واللجان الفنية كان الجواب دائما على طلبات دراسة إمكانية تخديم الشارع يأتي بأنه لا يوجد إمكانية فنية لتخدميها نظرا لميلان أرض الشارع عكس المصرف حتى استلمت نائب رئيس مجلس وعضو مكتب تنفيذي حيث قمت بتكليف المكتب الفني لإعداد دراسة لتخديم الشارع واقتراح الحل البديل لأنه لابد من تخديم الحي. وأثناء الرفع الطبوغرافي قدمت الدراسة ولكن بكلفة عالية لأن الشارع طوله 2.5 كيلو مترات ويخدم منشآت ضخمة وفعلا بدأنا بتنفيذ المشروع الذي كلف حوالي 8 مليون وكسور حيث حلت الأزمة التي كانت أمام معمل الزجاج على طريق درعا القديم اذ كان هناك مستنقع مياه آسنة دائم, كما حلت مشكلة تصريف معمل سوبر وايت وشركة الدبس إضافة إلى تخديم التاون سنتر ومشفى السلامة الجديد على طريق درعا حتى وصلنا إلى شارع المعامل الذي أقيم فيه, وهنا حصلت على موافقة تعبيد الطريق وخصص له المبلغ المطلوب ودخل مشروع تنفيذ التعبيد ضمن خطة البلدية لعام 2005, لكنني أوقفته بسبب توسيع شبكة مياه داريا التي سيحفر من أجلها الطريق على طول الشارع إضافة لحفر عرضي أمام كل دار, وكلفة التعبيد عالية جدا نظرا لطول الشارع لذلك ليس من المتاح تعبيده أكثر من مرة فالحل اذا أن تنتهي عمليات الحفر كلها وتنتهي البنية التحتية كلها ثم يعبد ليكون التعبيد نهائيا.
ثم تابع السيد بيرقدار حديثه:( لقد تابعت عقد المياه منذ تاريخ فض العروض أي منذ تاريخ 7\5\2005\ , فضت العروض وصدق المشروع ب 58 مليون وكسور, أي أصبح قابلا للتنفيذ الفوري وبوشر بالعمل فيه في الشهر الثامن ولدي معلومات ليس لدي عليها وثائق أن المواد التي استوردت من أجل المشروع بعد أن وصلت إلى الميناء تبين بالفحص الفني أنها غير مطابقة للمواصفات لذلك توقف مشروع المياه. في هذا الوقت أصبحت كرئيس بلدية آنذاك بين نارين اما ان انفذ مشروع التعبيد ونصرف مخصصاته التي قدرت ب 8 مليون ثم نعود بعد شهرين أو ثلاثة أو حتى سنة الى التحفير عندما يستأنف مشروع المياه ونكون بذلك خسرنا مشروع التعبيد الى اجل غير مسمى وعندها سيحتاج الى دراسات جديدة وتمويل جديد قد يكون من الصعب الحصول عليه لذلك قلت لنتحمل قليلا حتى نكسب تعبيدا دائما.
تابع السيد بيرقدار كأنه تذكر شيئا قال :( في أحد الاجتماعات مع السيد المحافظ كان حاضرا مدير عام الخدمات ومدير عام المياه بُلغت من قبل د. عبد الناصر سعد الدين مدير المياه في الريف أن المواد وصلت من الصين وباشر الحفر والتوصيلات وهذا الكلام قبل أن أترك البلدية بعشرين يوما, أنا الآن أتابع المشروع بشكل شخصي وقد أصبح العمل على وشك الانتهاء والمسألة مسألة وقت لأن مشروع التعبيد جاهز وأنا متأكد من هذا الكلام لأن العقد ملزم ومخصصاته المالية جاهزة ومن الممكن أن ينفذ فورا(
كلام السيد بيرقدار الذي لا يعد دفاعا عن أحد كونه لم يعد في موقع المسؤولية ولديه كل المعلومات المطلوبة لأنه كان في موقع المسؤولية! وهو أحد المتضررين من الوضع.
رئيس البلدية الحالي السيد عبدو خولان أكد بأن البلدية لا علاقة لها بالموضوع لأن مشروع التعبيد جاهز للتنفيذ وكل التأخير سببه شركة الهاتف وقد قامت البلدية برفع أكثر من كتاب لمديرية الاتصالات في ريف دمشق تطالب فيه الإسراع في العمل للانتهاء من تعبيد الطريق ولا حياة لمن تنادي.
حاولنا متابعة الموضوع مع المهندس أيمن ضوبع المسؤول عن المشروع لكننا لم نوفق بالحديث معه لأن هاتفه لم يجب أبدا وفي زيارتنا لمكتبه قالوا لنا بأنه في مقسم الكسوة وحتى هذه اللحظة لم نستطع أن نلتقيه أو نكلمه للاستفسار عن زمن الانتهاء من المشروع .
انتهت زيارتي للحي ولم تنتهي الشكاوى فمحلات الحي تدفع سنويا ضريبة نظافة تقدر بألف وخمسمائة ليرة سورية, ولا يعلمون لماذا يدفعونها إذا كان الحي على حاله منذ أربع سنوات ولم يروا فيه عامل نظافة واحد منذ ذلك الوقت , ولكن ما الذي سيفعله عامل التنظيفات بمثل هذا الشارع هل سينظف الحصى والرمال?
قبل أن أغادر قالت السيدة رويدة بلاقسة :( لو كنا نعيش في صحراء لكانت الخدمات أفضل من ذلك.)