حتى بدقة تامة,لكنهم يسيرون على الطريق خوفاً من أن يتهموا بالحب).الروائية الصينية الشابة لم تقل هذا الكلام حرفياً في روايتها المثيرة (شنغهاي بيبي) أو طفلة شنغهاي لكن هذا ما قصدته بالضبط في اتهاماتها الذكية الواضحة التي رشقت بها مجتمعها الصيني خلال سردها لحكاية بطلتها (كوكو) خريجة جامعة فودان.التي يتلخص وجودها من خلال طموحها في أن تصبح يوماً روائية تنال شهرة عالمية..شيئاً فشيئاً نكتشف أن البطلة ما هي إلا وي هيوي كاتبة الرواية ذاتها مبررة سردها لسيرتها الذاتية عبر استحضار فكرة لميلان كونديرا تقول إنه في القرن الحادي والعشرين سيكون بمتناول كل فرد أن يكون روائياً وما عليه إلا أن يمسك قلماً ويكتب?! من دون لف أو دوران وبصراحة مباشرة تدهشنا بالفعل وبعيداً تماماً عن الافتعال الذي يقع به عادة الكتاب حين يتعرضون للجنس بشكل مكثف فإن وي هيوي برعت بتقديم رواية تضج بحميمية الجسد دون افتعال أو استعراض?!
كوكو-وي هيوي
البطلة (كوكو) التي هي مواليد برج الجدي 3 كانون الثاني كما تعرفنا عليها,وي هيوي -التي هي ذاتها- حيث تتميز مولودات هذا البرج كما تقول بسيقانهن الجميلة وامتلاكهن لكاريزما استثنائية ولديهن قوى عقلية خاصة وقدرة جسدية على التعافي ..كوكو يتقاسم قلبها رجلان:حبيبها تيان تيان الصيني وعشيقها مارك الألماني وتعيش حياتها وفق عدة مبادئ اعتنقتها دونما رجعة مثل:(البنات الطيبات يذهبن إلى الجنة,غير أن البنات السيئات يذهبن إلى كل مكان) و(إن المرأة التي تختار مهنة الكتابة غالباً ما تفعل ذلك لكي تمنح نفسها منصباً في داخل المجتمع الذي يسيطر عليه الرجال) كذلك مقتنعة بحكمة جدتها التي تقول:(إن قلب المرء مثل خيط طيارة الورق أحد أطرافها هنا في الأرض أما الطرف الثاني فإنه في السماء ليس هناك من مكان كي يختبئ فيه الشخص عن قدره (أو) أي جزء من الحياة يستحق العيش من أجله) رغم شخصية كوكو الثائرة إلا أنها تصدق كلام جدتها لأنها سبق أن تنبأت بنجاح بزلزال شنغهاي في 1987?! وقد تنبأت لكوكو بأنها سوف تصبح كاتبة (بنجمة مضيئة تلمع فوق رأسي ومعدة تمتلئ بالحبر,قالت لي بأنني سوف أصنع علامتي في يوم من الأيام) أما علاقتها بوالديها فهي مثل علاقة كل متمرد بأهله:(أيتها الطفلة,هل أنت ابنتي حقاً? لماذا يربي رأسك القرون,ولماذا تربي قدماك الأشواك? قالت أمي).
اندفاع وي هيوي البوحي يدفعنا من كل بد لوضع عنوان عريض لدى توصيف روايتها مثل عبارة (أحاديث من القلب إلى القلب..أو اعترافات وجهاً لوجه أو بوح من مشاعر إلى مشاعر)..(منذ ذلك الوقت فصاعداً عندما انتهت ظلمة الليل,كان الوقت قد تأخر جداً للرفض لقد صار الوقت متأخراً جداً من أجل التوقف عن حبك..)
الرواية مليئة بشخصيات لا تقل جمالاً وتمرداً عن شخصية كوكو مثل صديقتها (مادونا) القوادة سابقاً والأرملة الثرية لاحقاً?! وزوشا قريبة كوكو المطلقة الجميلة,كليدي..ومصمم الأزياء الذي يحمل اسماً غريباً:(التفاحة الطائرة) وذلك الأميركي جونسون الذي يشبه ليوناردو دي كابريو..وصديقها الطموح وقناص المال (عنكبوت) لكن الحضور الذكوري بتناقضاته وجمالياته المخفية والمعلنة تبدى من خلال شخصيتي مارك وتيان تيان..مارك الجميل الشبق المولعة به كوكو جسدياً وتيان تيان الرسام الوسيم الحزين الذي تشاركه السكن وتمنحه قلبها?! شيئاً فشيئاً يجد القارئ أنه تعلق وتواطأ مع تيان تيان وكعادة كل الشخصيات الجميلة فإنها تموت في النهاية?! ووي هيوي عززت نرجسية حسها الروائي الأصيل بأن اختارت النهاية التراجيدية لتيان تيان الذي يدهشنا وعيه لحالة الموت مسبقاً:(إن الموت هو تعبير عن الإرهاق,وحل يتم التوصل إليه عقلانياً حالما يدرك الشخص أعمق أعماقه من التعب.لقد فكرت فيه لزمن طويل ولربما طوال حياتي ولكوني قد تمعنت فيه وتأملته فإنني لست خجلاً من الموت..كلما كانت إرادتي أضعف ازداد توهج عيني ذلك أنني شاهدت الثقب الهائل الأسود في بطن الشمس..نعم يا عزيزتي إن (الحب سوف يمزقنا) هكذا غنى أيان كرتيس الذي انتحر في عام 1980)..على مدار الرواية تحوم الذكرى وتظل بمثابة الزنبرك الماكر الذي يحدد خطوات كوكو لهذا بين فصل وفصل تركب تاكسي وتجد نفسها مستلقية على أعشاب حديقة جامعة فودان حيث ذاكرتها وحيث عليها أن تنسى كل يوم وتتذكر كل لحظة حتى يتنسى لها أن تشم رحلة سعادة محتملة?!
الرواية مجزأة إلى 32 جزءاً تحمل عنواين تشي بالحدث القادم مثل (عيون عشيقي,كريسماس بارد,مغادرة,غداء على العشب,يوم في حياتنا,العشاء بعد عشرة أعوام,ليلة عطرة).
خلال الرواية نستشف بوضوح سبب الضجة التي أحدثتها (بيبي شنغهاي) حين صدورها عام 2000 حيث تم وصمها بأنها -وي هيوي- كاتبة (منحلة) (منبوذة) وتعرضت الرواية للمنع والمصادرة من قبل السلطات الصينية والمعنية في شهر نيسان 2000 تم إحراق أربعين ألف نسخة من الرواية أمام الرأي العام وبذلك ناصبها العداء الإعلام الرسمي الذي سبق أن قام بتنصيبها نجمة صاعدة لجيلها في هذا المجال..
هذا ووي هيوي ابنة ضابط حربي وقد قضت ثلاثة أعوام من طفولتها في معبد احتله الجيش وشرد منه رهبانه خلال فوضى الثورة الثقافية في الصين ودرست الأدب في جامعة فودان المرموقة في شنغهاي أما إهداء روايتها فقد جاء بالصيغة التالية:(إلى والدي حبيبي,وجامعة فودان) لهذا وي هيوي ابنة هذا العصر بامتياز (في الماضي قبل أن تبتدئ,كناقد أضعنا فرصة الفرصة,إنه قطار الزمان السريع قد صفر ومضى عبر كتل ناطحات السحاب العصرية نحو البعيد,إن دموعي لم تفعل شيئاً,ذلك أن عجلات القطار الفولاذية الضخمة لم تتوقف عن الدوران من أجل أي أحد,إن هذا هو السر الذي يرعب الجميع في قلب المدينة في هذا العصر المادي القذر).
وي هيوي بفنية هائلة قدمت شخصياتها الموسومة بالألم والحيرة والمرسومة بكلمات مسيطرة قوية محكمة..وحافظت على أنوثة فائقة ودافعت عن شيء ما..لم يكن له أن يكون بدونها..لمعة حقيقة قاسية..لكن ضرورية والأهم من كل ذلك لم تتبع سياسة الأدباء شبه الموحدة أو الأدبيات تحديداً أي التنصل من الزمن عبر وصفة النسيان فيما وي هيوي كان (فن تقوية الذاكرة) واضحاً ومتحدياً بروايتها (بيبي شنغهاي).
الكتاب: شنغهاي بيبي
المؤلفة: وي هيوي / رواية
ترجمة: ظبية خميس
الناشر: دار الجمل - العراق - الطبعة الأولى :2005