ففي عيش التجربة ننشد صدق ما يكتب وحرارته, وفي الانتظار نضمن أن يكون نتاج ما نكتب أدباً, لا خطاباً ثورياً يسقط في هوة المباشرة و صيغ البيانات الحربية كما عرفناه في كثير من الأدب الرديء الذي تناول القضية الفلسطينية ومسائل الصراع العربي الصهيوني, ومرر على أنه أدب للمقاومة.
شخصياً كنت ولم أزل اعتقد أن التجربة الفلسطينية لا يمكن أن ترصد بحرارة تفاصيلها إلا من قبل من عاشها, وإلا فنحن أمام أدب رديء بالضرورة يلهث وراء المواصفات العامة للفلسطيني, اللاجئ أو الفدائي أو الأسير..دون أن يتذكر الفلسطيني الإنسان بكل ما تنطوي عليه هذه الصفة (الإنسان) من تفاصيل حياتية أبعد ما تكون عن رحى أي معركة.. وبعيداً عن ملاحقة هذه الصفة بالذات في الفلسطيني , فلسطيني الأرض المحتلة بالذات, يستوي الأدب ونشرات الأخبار , على نحو لا فرق بينهما إلا بما في الأدب من تخييل..
الحديث على هذا النحو, حيث يفترض أن يبقى الأدب أدباً (وهذا لا يتناقض من كونه يحمل رسالة وقضية) أجد ما يبرهن عليه في مجموعة قصصية لشاب عاش التجربة الفلسطينية على نحو حي ومباشر, وها هي نصوص الشاب (سعيد أبو معلا) في مجموعته (هههههه...عبور) تشهد إلى ما كنت دوماً أرمي إليه في ضرورة أن يتصدى الفلسطيني, صاحب التجربة, للأدب الفلسطيني الحديث الذي يتناول الداخل الفلسطيني فضاء لأحداثه.. والضرورة هنا ستظهر من نصوص سعيد الغارقة بتفاصيل الحياة الفلسطينية دون أن تتخلى عن شرط القص فيها فاللغة الناضجة والبناء الدرامي المتكامل وعنصر التخييل العالي المستوى فضلاً عن انغماسها في سرد متماسك قوي كلها بدت عناصر مميزة لقصص موضوعها الأساس القضية الفلسطينية.
لقد ساهم ما عرف أدب المقاومة بتمرير أدب رديء بما فيه الكفاية, وجاءت النصوص الشابة التي أتمثلها هنا بنصوص سعيد أبو معلا, لتعلن عن نفسها دون أن ترفع يافطة القضية لتمرير ما يمكن تمريره تحت عباءة الأدب, سعيد وأن بدا مشغولا بتفاصيل الحياة الفلسطينية, ظل يجتهد في أن يقدم أدباً رغم أنه لم يستغن عن مفردات الحياة الفلسطينية (حاجز, رصاص, حصار, انتفاضة, شهيد, حظر تجوال, قذيفة...), ولكنها يحملها لنا بصنعة معلم أدبي, لتحضر في النص الأدبي بوصفها جزء من فضاء الحدث والسرد, وليبقى الإنسان الفلسطيني(مجرداً من يافطاته المعتادة) هو محرك الحدث الأساسي, فيرصده بحضوره الإنساني البسيط في قصة (هههههه...عبور), عند الحاجز العسكري حيث ( فقد الجندي دوره, تأثيره تقلص على حساب قضاء الحاجة, كانت أقوى من رصاصة). دون أن ينسى حضوره في الصف الأول من المواجهة, ولكنه لا يسمح لوجع هذا الحضور أن يطغى على كلماته بذات الوحشية التي يطغى بها على أرض الواقع فنجده في قصته (كنوز...وجوه بحجم الوطن), يستعيد ملامح البيت الخارج من قدر الهجوم..( يتذكر البيت الذي كان, وعلبة الألوان, وشهادة التقدير على الجدار الذي يصحو بضوء الشمس يومياً, إنه ينوح بصمت كئيب, هنا كانت الشجاعة فكان الموت). وبذلك يبدو سعيد أبو معلا يبدو الأكثر توازنا لجهة إنسانيته بالمفهوم الكوني ولفلسطينيته بمفهوم الصراع..ولعل ذلك يظهر جلياً فيما يراه من ال(تعريفات) حيث تتقلب معاني كلمة دولاب مع تقلبه بين هاتين الحالتين ليصير الدولاب (مكوك الخياطة, وخزانة وعجلة يتلقفها الأطفال في الشارع والتفاف الصاروخ صوب الضحية, ورقصة )ميركافا( في ميدان المدينة, مروحة, دخان سيجارة...).معاني الدولاب المتعددة هي صفة قوس قزح الفلسطيني الذي سيبدو ظالماً أن يحصر بين قوسين على أن ما ضمنهما هو الفلسطيني.
ينحاز سعيد أبو معلا وفي مجموعته (هههههه...عبور) لأقصى ما في فلسطيني الحصار من إنسانية , دون أن يسقط عنه طقوس الموت والانتظار التي يعيشها..وهو بذلك يتتبع رؤية (فايزة أبو قطنة) , بطلة قصته (وجع) ليقول بلسانها: ( لا أستطيع أن أخبرك بما حصل..عليك التخيّل لأنك من هنا...), ووفق هذا المعنى ستجده ذاهباً نحو تفاصيل الأشياء كأن يصف حال من تتوسطهم موقدة نار بالقول: ( يشربون البرد بظهورهم والنار تشربه منهم)... ثمة حالة أخرى لم يجهضها حاجز إسرائيلي ينتظر صاحبها بعد قليل ( يلتقط ياسمينة من فيلا مقابلة لسكنه, يضعها فوق برواز صغير, ينظر, ويبتسم للغرفة التي تشع رائحة الياسمين).
رؤية فايزة الداعية للتخيل, سيلازمها حكمة كبيرة أيضاً تقول ( يجب الكلام عندما لا نحتاج إلى الصمت), وحين لا نحتاج إلى الصمت سيرتفع صوت سعيد ليتكلم عن الدمار, عن الموت, عن الشجاعة الفلسطينية, عن التحدي, وعن الفداء..وسيرتفع صوته أكثر عندما يتحدث عن عملاء إسرائيل في قصة هي الأصدق أنباء (رصاصة تكفي...!) حيث يلتقط من حكاية العملاء أحرج زواياها, لينبشها على نحو هو الأشد تأثيراً في ما يمكن أن يقال, فيرصد حال العميل: (يشعر أن البيت محاصر, أصواتاً, خرخشات, نظرات شماتة قاتلة, بصاق مقرف...يهمهم, يحاول جاهداً لقول شيء ما, ويختنق بالكلمات..), هذه الحالة لن تفضي بصاحبها إلا إلى القدر الذي أراده لأولاد شعبه..(العرق بلل ملابسه, أغرقها بدم فعلته, يريد أن يستعيد وعيه, تحسس رقبته, شد العقد الذهبي وقرر..فتح باب الدرج وتناول رصاصة..).
حكاية الفلسطيني في مجموعة سعيد أبو معلا (هههههه...عبور) القصصية.. هي الأنضج والأكثر حرارة فيما يكتب اليوم من أدب فلسطيني, والمجموعة منحت جائزة القصة القصيرة في مسابقة الكاتب الشاب للعام 2004 التي ينظمها برنامج الثقافة والعلوم في مؤسسة عبد المحسن القطان..وذلك لأسباب عديدة أهمها برأيي ما قيل عن أفكار سعيد من كونها (تنم عن إحساس فعلي ودراية بهذا الإحساس, بالإضافة إلى أنها تنجح بشكل كبير في صنع عوالمها الخاصة , ورسم معالم مكانية شديدة الوضوح), ولا أزد على ذلك شيئاً.
الكتاب: هههههه .. عبور
المؤلف: سعيد أبو معلا
الناشر: دار الاداب - بيروت - الطبعة الأولى - 2005