تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ايديولوجيــــا العنـــــــف وثقافــــــــة المــــــوت..

ثقافة
الأحد 18-10-2015
 عقبة زيدان

يدعي روبرت آردري أن البشر (قتلة) بطبعهم، لأن الناس الأوائل استخدموا أدوات كأسلحة من أجل تحطيم جماجم القردة. ويرى آردري أن أسطورة الناس كحيوانات مفترسة شرسة، هي واحدة من مسوغات العنف القصوى عند الرجل الغربي.

وترد آشلي مونتاغو بأن التطور الأولي للإنسان تميز باللاعنف، بسبب تطويره للنشاطات التعاونية: الصيد، اختراع الكتابة. ولم يصطد البدائيون فقط لإشباع غرائزهم الضارية، وإنما من أجل الغذاء وسد الجوع. إذاً لقد أمن الصيد حاجات البقاء الجسدية والاجتماعية.‏

يغلف الغرب العنف والعدوان ويضعهما تحت مسمى (العنف الضروري بيولوجياً) لتبرير الحرب «فالحرب ضرورية بيولوجياً. إنها ضرورة بقدر ضرورة صراع عناصر الطبيعة». كما يكتب ذلك فون برنهاردي عام 1905.‏

يدرك فرويد أن الناس ليسوا مخلوقات لطيفة ويمتلكون قسطاً كبيراً من العدوانية. وإن ضبط العنف هو حالة ضرورية. ويقول: «يجب أن تكون المحصلة النهائية حكم القانون الذي أسهم فيه الجميع من خلال التضحية بغرائزهم. هذا القانون الذي لا يدع أحداً تحت القوة العمياء».‏

يظهر كتاب (العنف والدماغ) لفيرنون مارك وفرانك إيرفين، أن العنف يحصل نتيجة اختلال وظيفي عقلي بلغة الدماغ. إن العنف الفردي علامة على اضطراب في الآليات التي تتحكم بالسلوك العنيف. وقد يكون الاضطراب راجعاً إلى مرض في الدماغ التكويني والمكتسب معاً.‏

أعلن ونستون تشرشل - وربما هو من المضطربين حسب مارك وإيرفين - عام 1945 بأن الحريات في ميثاق الإطلنطي تنطبق فقط على ضحايا محور العدوان، فيما قرر الفرنسيون عام 1944 أن البدء بالحكم الذاتي في المستعمرات هو أمر مستحيل في المستقبل البعيد. إن الخطابين السابقين يدلان على العنف، لأنهما يرفضان حق الآخر في صوغ حياته الخاصة.‏

في كتاب (الأنماط الثقافية للعنف) تتجاوز باربرا ويتمر القراءة المعتادة للعنف والعدوانية، وتغوص عميقاً في تشريح الأسس التي تقوم عليها نظريات تشريع العنف بوساطة الأيديولوجيا والأسطورة والخطاب الرمزي. لم ترق لها الخطب الكثيرة حول معالجة العنف، واتهمتها بالفشل، لأنها لم تجد طريقها إلى فهم العنف بشكل مقنع: «إن خطبنا ومعارفنا الثقافية غير شفافة. لقد منحتنا مشاركتنا في هذه الخطب فرصاً لتعزيز التفكير والفعل الاعتياديين وكشف فرضيات، واستبدالها عبر خلق معان وأفعال جديدة. من هنا يجري التساؤل حول فهمنا التقليدي للعنف، بغية وعي مؤثرات غير ظاهرة وفتح إمكانيات للتغيير».‏

لا بد - كي نستمر كبشر وككائنات عاقلة - أن نتحول من العنف إلى احترام بعضنا البعض، وهذا يتطلب منا إعادة تقويم شاملة للعلاقات ضمن الثقافة. لم يحضر العنف في هذه اللحظة من مكان مجهول، إنه عبارة عن استجابة سلوكية مكتسبة من خلال الموروث والمحاكاة الرمزية والتجربة. لقد جرت المصادقة عليه ثقافياً طوال قرون، وأعيد تعزيزه عبر الخطاب الثقافي. ولمنع السلوك العنيف، علينا إعادة تقويم للترميز وللمؤسسات الثقافية.‏

في رواية (ذئب السهوب) لهيرمان هيسه، ينصب غضب بطله هالر على الترويج للحرب ضد الآخر/ الإنسان، وقد صور الإنسان الجاني/ المعتدي شخصاً مصاباً بفصام عنيف، دفعه للتفكير في الانتحار كبديل لحياة العنف والسادية. أما كافكا فقد حول العنف بطله سامسا، إلى حشرة لا قيمة لها في خضم هذا العالم القاسي.‏

لم تساعد التكنولوجيا الحديثة في الحد من العنف ولجمه، ولم يكن للتقدم الذي تسارع في النصف الثاني من القرن العشرين أي أثر إيجابي على الرأفة بالضحايا. وبدلاً من ذلك، تحول الإنسان الذي يناهض العنف ويعرف كيف يبرمج نفسه لعدم الإصابة به، تحول إلى كائن بلا مكان يلجأ إليه، كما صور ذلك الروائي ميلان كونديرا في روايته (الهوية)، إذ لا مكان لمن يرفض أن يكون قاتلاً أو مشاركاً في القتل.‏

الإنسان ليس قاتلاً متوحشاً بطبعه، وهذا ما تؤكده بابرا ويتمر، من خلال سرد اعترافات ضابط أرخ للحرب العالمية الثانية، وأصبح فيما بعد جنرالاً في الحرب الكورية. يقول هذا الضابط إن نتائج مقابلاته أظهرت أن نسبة الجنود الذين أطلقوا النار على العدو لا تتعدى 15% حين فرضت عليهم الظروف ذلك، ومن بينهم قوات عالية التدريب ومتمرسة في الحملات العسكرية. ويضيف الضابط إن عدم إرادة القتل، وليس الخوف من القتل، هي التي دفعت 85% الباقية لعدم إطلاق النار.‏

وهذا يثبت أن المقاومة الداخلية للعنف - رغم التحريض الخارجي الهائل - منعت إنساناً من قتل أخيه الإنسان. وإن دل هذا على شيء، فإنه يدل على أن السلوك العدواني هو سلوك مكتسب من خطاب أيديولوجي معادٍ لطبيعة الإنسان.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية