تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


قطاف الزيتون.. مواسم للتكافل الاجتماعي

مجتمع
الأحد 18-10-2015
ملك خدام

ليس من قبيل المصادفة ،أن يتزامن موسم قطاف الزيتون كل عام، مع احتفالات الشعب السوري بأعياد تشرين المبارك،المتجذر في عروقنا، المتجدد في نسغ الشجرة المقدسة، التي أقسم بها الله تعالى عندما أراد أن يتحدث عن البلد الأمين.

فالزيتون هوية الشرق، وأكثر أشجار الزيتون المعمرة وجدت في فلسطين ،وقدر عمرها بآلاف السنين ما يدل على أن القدس عربية.‏

ولموسم الزيتون في بلادي نكهة الانتصار منذ التصحيح وإلى حرب تشرين، التي يذكي جذوتها الآن احتفالات الشعب السوري بانبلاج فجر انتصاراته على الإرهاب بإذن الله.‏

في هذا الموسم بالذات حل الخير والبركة في كل بيت ينتج ويزرع فصائل الزيتون، ولن تصدقوا أن اليد التي تحمل البندقية في بلادي هي نفسها التي تحمل وترعى غصن الزيتون .فانظروا إلى غيث العائد للتو من قطعته العسكرية في إجازة ،وهو يخرج مع أسرته ليساعدهم في قطاف الزيتون وقد لفت الأنظار إلى همته ونشاطه في هذا العمل ..‏

دنوت منه لأسأله:‏

أتعمل في قطاف الزيتون وأنت بإجازة يعز الحصول عليها؟!..‏

فقال: قطفنا النصر من الميدان والآن نقطف الزيتون من الحقول ..‏

ولكن ألا ترى الترويح عن النفس ضرورة لمن ينوي العودة قريبا إلى الميدان . ألا تنوي اللقاء بالأصدقاء؟‏

الآن يلحقون بي و معهم المتة والطرنيب‏

ألمح في يده خاتم خطوبة فأسأله على الفور:‏

والخطيبة ألا تدخر لها وقتا بعد طول انتظار ؟!‏

ضحك وهو ينظر إلى أعلى الزيتونة وقال :اسأليها..‏

وبرز من بين اغصان الزيتون وجه ملائكي لفتاة لا تقل عن غيث همة ونشاطا كانت تهز أغصان الزيتونة برفق فتتساقط كالمطر الأخضر غزيرة على وجه خطيبها الذي راح يجمعها بحرص في مئزر سبق أن فرشه تحت الزيتونة .. سألتها بصوت عال :‏

متى حفل الزفاف؟ فقالت:‏

عندما ينتهي موسم قطاف الزيتون ..لقد وعدني من الموسم الماضي بشهر عسل في مرمريتا..‏

فتمنيت لهذين الغصنين الريانين الرفاه والبنين ،وانتقلت إلى الكرم الآخر لأرى عائلة كبيرة تجند صغارها وكبارها لجني المحصول‏

أسأل كبير العائلة :هل الموسم لهذا العام وفير؟ فقال :‏

بركة ..ربما نحصل هذا العام على مؤونتنا ومؤونة الأولاد ،وندخر جزءا للموسم القادم، ونبيع ما يبقى لندفع أقساط جامعات ومدارس الأحفاد...‏

ولماذا تدخرون جزءا من المحصول. ألا تتوقعون إنتاجا أوفر في الموسم القادم؟‏

تقول زوجته : تعلمنا من الأجداد أن مواسم الزيتون محل وقحل ..سنة يعطي بغزارة ..وسنة يصبح كالحمل العزيز ،ومن الحكمة ادخار جزء من المحصول، لاسيما وأن زيت الزيتون كالذهب الأصفر دائما في ارتفاع .بعض التجار يحتكر على المثل الدارج «خلي العسل في أكواره حتى تأتي أسعاره» فيكون الغلاء عندئذ فاحشا.‏

وعندما هممت أن أغادر هذا الكرم إلى كرم آخر ،استوقفتني الجدة وقدمت لي رغيفا خبزته على التنور للتو وقالت:- (وهي ترش عليه قطرات من زيت الزيتون وقليلا من الملح)-ألم تسمعي بقضوضة الزيت والبصل الأخضر ؟ فقلت :أجل إنها في ريف الساحل أشهر من نار على علم فزينتها بعرق من النعنع البري الأخضر لأتناولها بشهية وأغادر هذا الكرم وأنا أقول لأصحابه :سنة مباركة لكم..‏

في الكرم الآخر.. لفت نظري كثرة عدد المشتغلين فيه، فهذا الكرم كما علمت من صاحبه واسع وشجره كريم، لذلك هو اعتاد أن يستعين عليه بأهل بيته وأقاربه وجواره، وبتكافل هؤلاء جميعا يصبح العمل الشاق متعة ولا يكون هذا العمل التضامني بالمجان ،فلكل مجتهد نصيب، والأقربون أولى بالمعروف.‏

في الكرم البعيد أبدت أم أحمد امتعاضها من جشع العمال المأجورين لقطاف الزيتون .‏

فالبعض منهم يشترط الحصول على نصف الموسم، ونادرا ما يرضون بالثلث ،هي قد استعاضت عنهم هذا الموسم بالاستعانة بالبنات والكنات إنها فرصة للم شمل العائلة الكبيرة مع الصغيرة في موسم الزيتون ليعم الخير على الجميع، «من دهنه- تقول- سقي له» فتستفيد كل العائلة بدل أن يذهب نصف المحصول للغريب.‏

لم يقتصر الأمر على أم أحمد فقد تذمر أيضا أبو اسماعيل من قلة الشغيلة الشباب الذين طلب قسم منهم للخدمة الإلزامية ،وبعضهم طلبوا على الاحتياط، كما هاجر البعض الآخر.. الأمر الذي جعله يستعين على كرمه الشاسع هذا الموسم بالتقنيات والتكنولوجيا .‏

يتنهد وهو يتحسر على الأيام الخوالي حيث افتقد الحميمية في مواسم قطاف الزيتون.‏

ومر في شريط ذاكرتي كم كنا نستمتع صغارا بنهاية العطلة الصيفية في نبر ولقط الزيتون حتى «العرجون» لم نوفره لأن جداتنا طلبت منا جمعه لصناعة صابون الغار البلدي، وعندما لا تكفي الكمية لطبخة صابون كان الصبّان ينادي لمؤازرة الجوار والأقارب بعضهم بعضا لتأخذ كل عائلة حصتها من ألواح الصابون المقطعة بالتراضي كما كانوا يقتسمون الرغيف‏

وكم لفت نظري صغيرة تلك القرباطية(الشحادة باللغة المحلية)وهي تلف على البيوت لتأخذ نصيبها كذلك من زجاجات الزيت وألواح الصابون.‏

إنه ببساطة موسم اليمن والبركة للغني والفقير ،للقاصي والداني ،الصغير والكبير.. كما هو موسم للتعاضد والتآزر والتكافل والضمان الاجتماعي. فالذي لا يملك كرم زيتون يضمن أو يشارك فيحظى على أقل تقدير بمؤونة الأسرة من الزيت والزيتون المرصوص فلا يموت أحد من الجوع.‏

ولا عجب أليس ذلك الفيض من غيض تلك الشجرة المباركة التي شبه الله نوره بها إذ ورد في القرآن الكريم قوله :‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏

«الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار»‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية