الآن، وبعد أن انسحبت القوات الأميركية المقاتلة، ماذا سيقول مؤرخو المستقبل عن نتائج غزو العراق؟!.
الكثير، الكثير، سيقولون على صعيد الاستراتيجيات العليا، إن آمال الولايات المتحدة بإيجاد نظام عالمي أحادي جديد سقطت بالضربة القاضية: فلا هي تمكنت من استيلاء هذا النظام، ولا القوى الدولية القديمة والصاعدة اقتنعت بأنها مؤهلة لقيادة هذا النظام بعد تعثرها العسكري والأمني والسياسي في العراق.
وهكذا، وبدل أن يشق النظام الجديد طريقه إلى الوجود منذ حرب الكويت وحتى غزو العراق، حلت مكانه فوضى دولية لاتزيدها الأزمة الاقتصادية الأميركية العاتية إلا تفاقماً.
في المجال الإقليمي، سيسجّل مؤرخو المستقبل أن غزو العراق، الذي كان يُفترض أن يكون منصة الانطلاق لإقامة نظام إقليمي جديد بحراسة قوات أميركية تحط الرحال في خاتمة المطاف في دمشق وطهران، انقلب على نفسه وبات همّ واشنطن الرئيس حماية قواتها ونفوذها في بلاد الرافدين.
أمّا فيما يتعلق بالعراق نفسه، فنتائج المغامرة الأميركية لن تحتاج سوى إلى استخدام تعبير «مروع» لوصفها 7 ملايين مهاجر ومهجر، 8 ملايين أرملة ويتيم، ومئات آلاف القتلى والجرحى منذ العام 2003، إنها «المهمة التي أنجزت» والتي تترك العراق أشلاء مقطعة وإرثاً منهوباً ووطناً بلا لون ولاطعم تنتشر فيه روائح الجثث المتعفنة وروائح الفساد الخانقة.
هل يعني كل ذلك أنه لم يكن ثمة مستفيد من «الأشغال الشاقة» الأميركية طيلة 21 عاماً (1990-2001)؟.
بلى، هناك طرف هو المستفيد الأكبر: »إسرائيل« التي يُقال، وعلى نطاق واسع، إن حرب تدمير العراق شنت من أجلها بقدر ماشنت من أجل النفط، وهذا مادفع الكثيرين، وعن حق، إلى إقامة رابط تاريخي مكين بين الخطة الأميركية - «الإسرائيلية» المشتركة لتوجيه الضربة القاصمة إلى مشروع عبد الناصر التنموي والتحديثي عبر حرب 1967 وبين حرب 2003 التي نسفت أسس الدولة العراقية، ففي كلا الحالين، كانت الرسالة واضحة: ممنوع بروز أي قوة إقليمية عربية قد تشكل تهديداً أو حتى منافسة للإمبراطورية «الإسرائيلية» الصغيرة في المشرق العربي.
ثم هناك مستفيد آخر: «الكارتلات» النفطية والعسكرية- الصناعية الأميركية، التي كانت، وستواصل الإفادة القصوى من احتلال العراق، وهذا تبين من خلال مقاتلة الولايات المتحدة حتى الرمق الأخير للاحتفاظ بسيطرتها على العراق.
مؤرخو المستقبل لن يتوقفوا عند هذه الخلاصات الاستراتيجية والدولية والإقليمية، بل سيرنون ببصرهم أيضاً إلى المحصلات الثقافية والإنسانية، وهنا سيكتشفون أن الولايات المتحدة باعت جلد 300 مليون عربي ومليار ونصف مليار مسلم لـ »3« ملايين إسرائيلي ولحفنة من أصحاب المصالح النفطية والصناعات الحربية، كما أنها ألحقت أفدح الأضرار بالمشروع الديمقراطي والتحديثي العربي، بعد أن لوثت هذا المشروع بدم الضحايا المدنيين، وبلعنة العصبيات الطائفية والمذهبية، وبموبقات الفساد والانحلال الخلقي.
بيد أن مؤرخينا ربما يرون مالانستطيع نحن رؤيته الآن: الثمن الباهظ الذي ستدفعه الولايات المتحدة جراء تخبط سياساتها على هذا النحو الكارثي في العالمين العربي والإسلامي.
وهو ثمن سيكون، وفق كل المقاييس، باهظاً، على الأقل بالنسبة إلى مستقبل الزعامة الأميركية في العالم، باهظاً للغاية في الواقع.