أنوثة مكتفية بذاكرتها في زمني الحرب والحب وهي تبعث للحياة.
ثمة شعرية للمعرفة وتاليا للأسئلة العطشى للحقيقة وكثافة استيهاماتها في المسافة الروائية والسيرية بين الواقع بمضاداته والحلم الذي يتنفس من الخيال.
ولعل الروائي وعالم الاجتماع العربي حليم بركات أراد تحليل موشوره الواسع الطيف بيروت المزيج الفريد من الأديان والعوميات والتواريخ والسير الصغرى والكبرى والمنعطفات الحاسمة في ذاكرة مدينة ملونة في خمسينيات قرن مضى,هل يعيدنا ذلك,لسيرة مشابهة كان قدكتبها الروائي الراحل عبدالرحمن منيف سيرة مدينة(عمان) ما معيار تقاطع السيرتين?! إنها المدينة فما تمنحه من امتحان قاس للذات والآخر,والسجال المتعدد فوق جغرافيا الاحتمالات والذكريات والتجارب.
كان صاحب (طائر الحوم)يشرع في تأريخ سيرته طفولته,عائلته,جذوره الكفرونية مغتربه القسري(واشنطن)أراد أن يتبادل مع طائر الحوم اسمه ويطلب منه جناحيه,إنه الملاحق بجراح طائر الحوم,وكانت المدينة الملونة فصلا في روايته السيرية الأولى(طائر الحوم)التي صدرت للمرة الأولى عام .1988 اختتمه الروائي بركات بتورية جميلة ذات معنى,بدخوله جوف بيروت,كما دخل يونان بطن الحوت,فإذا للحوت نوافذ,ويتأمل زجاجها المطلي بلون أزرق داكن فيحسب أن المدينة ملونة ولم تتغير هذه الصورة الأولى في ذهنه,لماذا لا تزال تلك الصورة الأولى عالقة في مخيلته حتى الآن,يسأل حليم بركات,لكن سؤاله يتخذ هذه المرة أبعادا مختلفة,لينبش ذاكرته الأولى في فضاء المدينة الملونة بيروت حيث يتوزع على ثلاثة أجزاء الأول منها استكشاف المدينة من خلال دمارها في الربع الأخير من القرن العشرين وبدايات قرن جديد والثاني يبحث في يقظة الذاكرة من رماد الفجيعة,ليختتم مطافه ليبدأ مطافا آخر في إطلالته من شرفة القرن الحادي والعشرين,فهو إذن يستكشف المدينة من خلال تاريخ أحداث حياتية يومية,يقارب أسطورة الغياب والحضور,لقد أرادها رحلة(سندبادية) لاستكشاف بيروت والذات وأسرار العلاقة بينهما,ويدخلها من بوابة الليلة 582 من ألف ليلة وليلة,قصة الصياد والعسل والزيات سرد متواتر بلحظات انكشاف الذات ومسائلها,من خلال استدعاء أيام الصبا وأحداث الماضي,والذكريات الشخصية والعامة إنها بيروت ذاكرة نزار قباني ومحمود درويش وأدونيس,يتجول وسط دمار ساحة البرج,يتأمل الدمار العبثي إثر الحرب الأهلية الثانية,وهو مسكون برغبة البحث برؤية الصورة في شموليتها,بدءا من علاقة عشقه يقول:(ولدت بعلاقة عشق بين البر والبحر).
ويمكن لهذا المولود في المكان الخاص الذي يلتقي فيه القديم بالجديد,أن يمتلك تلك البساطة الآسرة,والنبل المقيم,ليبوح بنثره وشعره مطهرا ذاكرته بانزياحه الى ماهو جوهري ليخاطب القلب والعقل بآن معا,لاسيما في انتقاده وهجائه جوانب التقليد والعلاقة مع الغرب ويتخفف من حدود الوهم وحدود الواقع,يظهر صوت الراوي نادر متسقا في سرده لعلاقته ببلده الكفرون واغترابه في أمريكا,واستحضاره لشخوص وحيوات كثيفة أقرب إلى بورتريهات حية بالمعنى الفردي رؤى,عادل,صبا,وندى وكمال,أو الجمعي في مصائره وأقدار عائلات كثيرة (بيروت وكفرونية)...ومع ذلك يتساءل:(هل تعود أيام الماضي الجميلة)?!ويستطرد في أسئلته إضافية هل بيروت مدينة الماضي أم المستقبل,وهو يطل من شرفة نهاية القرن العشرين على بيروت,كمثقف نقدي يدرك بحدسه معنى السجلات الأدبية والفكرية والسياسية التي شهدها في بيروت كسجلات مجلة الآداب,ومجلة شعر وغيرها,وكذلك صراع الأىديولوجيات والأحزاب,ونقد الحرب والطائفية,وتشكل الوعي بحثا عن جذوره ,وإنسانيته حينما يسقط المسافة بين الحلم والواقع,ويتدفق بالصور والرموز وبهاجس البحث في أصول اسم بيروت,وحكايات طبقاتها وماضيها ومستقبلها.
ويمكن لذلك الأنتربولوجي أن يحلل ويثير في روايته ما لايثيره التاريخ الرسمي والشفوي,عميقا في أسرار المدينة الملونة وناسها,(كل سر منها مدخل للسر الأكبر)وفسيفسائها من الاختلاف إلى التميز الحضاري,ليكتب درسا في معنى الإنسان,ويوقظ حلما,ويطرح أسئلة تضع الإنسان في مواجهة قدره,وعوالمه الغامضة,دون أن يتجاوز دفاعه عن المرأة وكفاحها,متكئا على سياق التاريخ والوثيقة وفتنة المتخيل,في الجمع بين شخصيات متخيلة وأخرى معروفة.
لكنه مع المرأة ينزاح الى حكايات البراءة والتعفف,والتماهي مع فلسفة الجسد( أريد لجسدي أن يتجاوب مع الريح والأنغام والماء).
إذ يفسح الروائي مجالا للحظات الشغف والحب المضادة لخطاب الحرب,التي تبدأ ولا تنتهي (صبا,ورؤى)يظهر صوته نشيدا بمتونه الشعرية وإحالاته ومقبوساته مابين الرقة والبوح والهمس والحنين,إنه الباحث عن الحب انتصارا للروح,تجربة إثر أخرى,تنفتح بمفردات الذاكرة على الخاص والعام, الماضي والحاضر.
لينتج سيرة مكتملة بشعريتها,دون أن تتضخم الأنا,أو تكف عن البحث عن الآخر أو لجم الاعتراف أمام ذكريات بيروت ومشاهد دمار ساحة البرج والخندق الغميق والشياح وعين الرمانة.
وفي إثارته لغربة الكاتب ومهمة المبدع,وتوقه لفارس ينقذ بيروت من تنين غاد,(من سيد بيروت التنين أم الفارس المنقذ)?!
المدينة الملونة تؤرخ بالسيرة المكتملة أدب الحياة الجديدة,القومي بقدر ما هو عالمي وإنساني وتجربة مختلفة في العشق والبحث عن الخلاص الذاتي بالكلمة النبيلة وشهادة لمثقف عربي يصوغ سؤاله الضروري(هل نواجه مطاردينا الجبابرة الذين يسعون للهيمنة عالم العالم ويملون علينا دروسا في الديمقراطية بلغة استبدادية)?!
وهي لا تغادر كونها نص حنين مفتوحا,يتوضع فيه مثلث علاقة فريدة بين المنفى والهوية والإبداع ونتساءل هل تحرر نادر أو حليم من جاذبية بيروت بعد أن حلقت به الطائرة فوق المحيط بين باريس وواشنطن,بيروت التي ستعيد بعثها بعد كل موت,ذلك هو مشهدها الآن وهنا,تماما كما تينة الصخرة في ضهر الكفرون.
ونصبة التين التي نمت في حائط في بيروت (قد تنحني ولكنها ترفض أن تموت,كما قال حليم بركات وتابع (شعبنا شجرة تين والشعوب التي ترفض أن تموت,إنما تمارس حقا أساسيا من حقوقها الطبيعية).
أطل حليم بركات من شرفة القرن الحادي والعشرين ورأى ما أراد... بعض من السيرتين,ما يؤلف المعنى من ذاكرة رائية....
الكتاب:المدينة الملونة
الكاتب:د.حليم بركات
الناشر:دار الساقي بيروت - الطبعة الأولى2006