|
إدمان الشاشة آراء
لكن إلى أي حدٍ يلعب التلفزيون دوراً حقيقياً ومؤثراً لدى المشاهد العربي?! بالتأكيد هناك برامج اجتماعية وسياسية ممتازة, لكن مقابل تلك القلة المتميزة كمٌ هائل من البرامج التي تستخف بالمشاهد إلى حدٍ كبير لأنها تفتقر للحقيقة والمنطق والتفكير السليم.. ولايمكنني التطرق لكل المواضيع وطريقة معالجتها, لكن سأعطي بعض الأمثلة التي تدل على نمط معالجة المواضيع الاجتماعية التي تهمُ المشاهد. مثلاً هناك برنامج اجتماعي يبثُ من إحدى الفضائيات المصرية بعنوان (الحقيقة) وكان موضوع إحدى الحلقات ظاهرة فرار الفتيات المراهقات من بيت الأسرة, كذلك موضوع سفاح الأقارب. وقد استضافت معدّة البرنامج الذكية واللبقة ضيوفاً مرموقين: طبيب نفساني, شيخ في الأزهر, وباحث اجتماعي يعمل في مجال الإحصاء.. المشكلة فعلاً هامة: ما الذي يدفع الكثير من المراهقات للفرار من بيت الأسرة والعمل في مجالات يتعرضن فيها لأبشع أنواع الاستغلال والانتهاك? أتحفنا الباحث الاجتماعي بأنه لاحظ ان معدل فرار الفتيات من بيت الأسرة قد تضاعف ست مرات بعد ان صرّحت الفنانة فيفي عبده انها فرّت من بيت أهلها وهي في الثانية عشرة من عمرها وبأن هذا الفرار لم يُعقها بل صارت فنانة مشهورة. حاول الطبيب النفساني التدخل ودفع دفة الحوار باتجاه الأسباب الواقعية الحقيقية لفرار الفتيات وأهمها الفقر والجهل, وكثرة الأولاد, وقلة عناية الأهل بهم,ودور طلاق الأهل في تشرد الأطفال.. لكن كلامه ضاع أمام تأييد شيخ الأزهر لرأي الباحث الاجتماعي.. واتهم شيخ الأزهر المسلسلات التلفزيونية الجريئة بأنها السبب وراء انحراف هذا الجيل, وذكر حالة شاب اعتدى جنسياً على أخته متأثراً بلقطة من مسلسل تلفزيوني تتعرض فيه مراهقة للاغتصاب من قبل قريب لها !... وحين تدخل الطبيب النفساني ليسأل الشيخ الفاضل عن ظروف هذا الشاب فوجئنا ان الشاب في الخامسة والعشرين من عمره,عاطل عن العمل, ويعيش مع والديه وسبعة إخوة في غرفة واحدة! اذاً التصاق الأجساد طوال الليالي المتعاقبة, مع فورة الغرائز المكبوتة وإحباط البطالة والفقر المُذل, كل ذلك لايبرر اعتداء الأخ على أخته, بل السبب هو لقطة من مسلسل!!?? وعبّر شيخ الأزهر عن غضبه من ان التلفزيون لايجب ان يُعالج مواضيع حساسة وتمس الأخلاق مثل سفاح الأقارب, وهروب الفتيات, والعنوسة الخ.. لأن الإسلام يُحب السترة والله ستار. وهنا انبرت المذيعة تعترض بلباقة قائلة: بأن التلفزيون يدخل كل بيت وهو الوسيلة الأنجح للتأثير في الناس. لكنه- أي شيخ الأزهر- عبّر عن استيائه من رأيها وقال ان هذه المشاكل يجب التعبير عنها بالكتابة. هل يعرف حضرة الشيخ الفاضل مستوى الأمية في العالم العربي! ونسبة من يقرأ ويشتري كتاباً?! لأنتقل إلى برنامج آخر مشهور جداً هو (حوار ساخن جداً).. يبثُ من إحدى الفضائيات, لاتجد معدّة البرنامج مانعاً من ان تصلبنا ثلاث ساعات امام الشاشة لمناقشة موضوع مثل زواج الأنس بالجن! كما لو انه لاتكفينا مشاكل زواج الأنس بالأنس! وتحشد لنا جمهرة من الضيوف الذين يعطوننا معلومات تفصيلية بالغة الدقة عن أنواع الجن وصفاتهم, وبأن منهم صالحاً ومنهم شريراً, وهناك جن مسلم,وآخر غير مسلم..الخ. بل وتستضيف شاباً يخبر الجمهور الكريم انه متزوج من جنية! اقل ما يمكن ان يقال عن مواضيع من هذا النوع انها هدر مؤذ للوقت, واستخفاف وأذى لعقل المشاهد ! خاصة ان هذه البرامج تلعب دور المخّدر اللذيذ, لأنه يمكن متابعتها والمشاهد بحالة استرخاء,ولاتتطلب منه أعمال التفكير والتحليل بمواضيع حياتية حقيقية وشائكة?! هل زواج الأنس بالجن مشكلة حيوية تتطلب رصد حلقة تلفزيونية من ثلاث ساعات لمناقشتها.. الأدهى من ذلك, كيف تُناقش?! لم يُشر احد من الضيوف الكرام في البرنامج الى ان هؤلاء الأشخاص الذين يعتقدون انهم يعاشرون الجن معاشرة جنسية, ماهم سوى مرضى نفسانيين يجب علاجهم وبانهم غالباً ضحايا لضغوط نفسية هائلة يعجزون عن تحملها فيلجؤون للتحرر منها عن طريق حل غير واع بانشطار شخصيتهم وخلق شخصية أخرى تسيطر عليهم وتوجه سلوكهم.وهؤلاء المرضى يشعرون بهلاوس سمعية وشمية ولمسية وجنسية صحيح ان معظم المشاركين في البرنامج استنكروا ورفضوا زواج الأنس بالجن واعتبروه مرضاً علاجه الوحيد تلاوة الآيات القرآنية. ففي القرآن يكمن الشفاء, وتكفي الاستعاذة من الرجيم سبع مرات ليطرد الانسان الجني!! بل ان احد الضيوف الكرام أفادنا بإحصائية ان مجرد سماع الانسان تلاوة الآيات القرآنية سواء كان هذا الانسان يفهم العربية ام لايفهمها فإن حالته النفسية تتحسن والاهم من ذلك فإن جهاز مناعته ضد الامراض يصبح اقوى واكثر فاعلية ! إني احترم القرآن ومتأكدة من تأثير الايمان والتدين في ادخال السلام والراحة النفسية للانسان, خاصة المرهق والمكتئب.. لكني مؤمنة ان الله خلق لنا عقلاً لنحاكم الامور ونعرف ان الامراض النفسية تحتاج لجلسات علاج نفسي وادوية نفسانية.. والا ليذهب فرويد ويونغ والطب النفسي الى الجحيم.. هل علاج فصام الشخصية والعصاب القسري الوسواسي والامراض الهذيانية وحالات الاكتئاب التي تدفع للانتحار.. يكون بذلك ! لايوجد دين سماوي يرضى بتغييب العقل.. وان معالجة مشاكلنا الحياتية بتلك الطريقة اللاعقلانية والمستخفة بالمشاهد لهي جريمة برأيي.. وبعد لم يتطور الغرب إلا لانه امتلك الجرأة والشجاعة على مواجهة مشاكله بحياد وموضوعية, وطرحها على الملأ.. فمتى سنمتلك شجاعة المواجهة.. أنا واثقة اننا ان لم نطرح الأسئلة التي نخشاها.. وننقب عن الإجابات الثورية.. فستضيع حياتنا سنة بعد سنة في اللاجدوى والهدر الوجودي.
|