ثم تابع حديثه عن تجربته قائلاً: أنا ابن هذه المدينة الحبيبة دمشق من مواليد ,1938 نشأتي كانت بإصرار من والدي أن أكون (مهندساً, طبيباً, أو...) ولعل ليس كل ما يخطط له بالحياة يتحقق, فقد فشلت في كل المحاولات العلمية التي أرادني الوالد أن أكون فيها وشاءت رغبتي وطموحي أن أتوجه للفن, والحمد لله, فقد حقق لي الفن على صعيد العالم العربي مكاسب أفخر فيها كفنان سوري واستطعت أن أملأ بعض الأمكنة بالنجومية.
رحلتي هي محطات, قد لا يستطيع الفكر أو الخيال أن يحتوي كل ما فيها لكن العمر قصر أم طال فهو رحلة يمر بها القطار سريعاً, ويقف في بعض محطاته.
من الإخراج إلى الغناء
ويمكن القول: إنه في محطتي الأولى, تمكنت من أن أصنع لنفسي علامة فارقة في الفن, حاولت أن تكون البداية من دمشق في أن أكون مخرجاً للمنوعات, ولم أتمكن من تحقيق طموحي بسبب رفض أحد المديرين فتوجهت إلى بيروت للعمل الإخراجي, وهناك تسلقت متعة التجارب واخترت طريق الغناء, بعد أن نصحني بعض الأصدقاء الذين استمعوا إلى صوتي.
وبالفعل اخترت هذا الاتجاه في أيام كانت الأغنية إلى حد ما مائلة للهبوط في اختيار الكلمة, وكانت أول أغنية هي للشاعر السوري الراحل مصطفى البدوي, أشهرتني حين ذاك شهرة واسعة (عشقت في الأندلسية) نجاح الأغنية جعلني أشعر أنني أجول في شوارع دمشق, وفي بلاد الأندلس وفي كل البلدان العربية, وتوالت النجاحات, وكان لي محطة مع الملحن الراحل محمد محسن.
تجربتي مع الأغنية الشعبية
بعدها انتقلت إلى الأغنية الشعبية, حيث لفت نظري الأستاذ الملحن عبد الفتاح سكر إلى أن أكون مطرباً للجماهير وليس للنخبة فقط, وشجعني للتوجه نحو الفلكلور, فاختار لي بعض الأغاني مثل (بابوري رايح وأغنية ياصبحة).
والحق يقال: إن هذه المحطة كان لها تأثير كبير في انطلاقتي الأولى عام ,1966 وأن المخرجين وأصحاب المحطات في بيروت استقبلوني بتبن كامل وسقى الله أيام زمان, عندما لم تكن السياسة تلعب دورها في تفرقة شعبين هم أهل وأقارب وجيران ومحبين لبعضهم بعضاً.
ولابد أن أذكر أنه في هذه المرحلة تعاونت مع الفنانة السورية الأصل (طروب) في بعض الإنتاجات المنوعة منها (حكايا زمان, الرحلة الثامنة لسندباد).
سورية بيتي وأهلي
في محطتي الثانية: عدت إلى وطني الأم وأطللت على الجمهور من خلال برنامج كان يقدمه المخرج الناجح خلدون المالح, واستقبلني هذا الجمهور المعروف بعاطفته المرهفة استقبالاً سريعاً.
إلا أن تلك المرحلة تميزت بعدم الاستقرار على الصعيد الفني والثقافي, هذه الأوضاع دفعتني للانتقال إلى الأردن, وهناك أنتجت بعض الأغنيات الاستعراضية مع مجموعتي الخاصة, ولم أستطع البقاء أكثر, فعدت إلى سورية لأنها بلدي, وبيتي وأهلي, وذكرياتي, لكن حرب 1967 جعلت طموحي يقذفني نحو المجهول, فتوجهت إلى الخليج ولم يحالفني الحظ هناك, فخططت لأن أكون في القاهرة, التي كانت قبلة الفنان لأن يكون أكاديمياً.
وكانت مصر حينها (عبد الوهاب, أم كلثوم, عبد الحليم حافظ, فريد الأطرش و.. إلخ).
رحلة القاهرة
وفي القاهرة عام 1970 اعتمدتني محطة صوت العرب كمطرب من المطربين العرب الموجودين, وأصبحت النجم الاستعراضي الأول لحفلات أضواء المدينة وكان للإعلامي جلال معوض كبير المذيعين وصانع النجوم (رحمه الله) فضل في انتقائي لكل حفل يقام في القاهرة وخارجها وكان اسمي المطرب المتفائل الاستعراضي.
بالإضافة إلى هذا الجانب, كان في حياتي حدث اجتماعي, جعلني ضمن دائرة اهتمام الإعلاميين وهو زواجي من الفنانة ميرفت أمين والتي كانت في بداية السلم الفني.. طرحت المسألة بشكل إعلامي كبير بين مع وضد إلا أن هذا الزواج لم يستمر أكثر من سنة وثمانية أشهر.
وتجدر الإشارة إلى أنني شاركت في مصر بالكثير من الأغاني القومية المصنعة في صوت العرب, حيث كنا نعيش أيام الوحدة وهو جانب آخر جعلني ضمن دائرة اهتمام الإذاعات الثلاث (الشرق الأوسط, والبرنامج العام, وصوت العرب).
والذي ساعدني أنني لم أكن منافساً لعبد الحليم أو فريد الأطرش وكنت صاحب لون مختلف وأختار الكلمات اللطيفة التي يحبها كل الجمهور العربي, فلم أغني بالمصري أو اللبناني, السوري الشعبي الخاص بمنطقة معينة, وكان يسبقني إلى هذا اللون المطرب السوري فهد بلان رحمه الله وكان بيننا تنافس فني شريف.
الحدث الهام
في أحد الأحاديث الهاتفية مع والدتي قالت لي: تعال إلى سورية, فالناس هنا يلتفون حول الحركة التصحيحية, وحينها كنا نسكن في شارع باكستان وكنا جيران للقائد الخالد حافظ الأسد, ونعرف هذا الجار العظيم وجهاً لوجه وكان في ذلك الوقت وزيراً للدفاع.
من أجل هذا الحدث المهم حملت نفسي ووضعت كل أغنياتي التي صنعتها في صوت العرب بهذا الاتجاه, وكانت أول أغنية هدية لهذه الحركة هي للشاعر والملحن شاكر بريخان بعنوان (الشمس طلعت).
ثم تفاءلت باستقبال الناس وأنا على المسرح, وتفاءلت بالفرح والاستقرار الذي يشعرون به بعد أيام الانقلابات والنكسة والانفصال, فآليت على نفسي أن أكون مخلصاً ومطرباً لهذه المسيرة, وبدأت أضع أغنياتي كلها لهذا الهدف, فغنيت (رعاك الله يا أسد) وكرت السبحة: أغنيات لأطفال الطلائع, وللشبيبة, وللحزب وأغنيات لبنات وأبناء الشهداء, ودامت هذه المرحلة بكل وعي وإخلاص من 1970 حتى رحيل القائد الخالد حافظ الأسد, ومن باب التذكير ليس أكثر كانت 90% من مشاركاتي في الاحتفالات بدافع وطني وبشكل وجداني طوعي, مع أنني أنا الوحيد بين الفنانيين السوريين القدامى وحتى الذين اعتزلوا, غير موظف, وتحت عبارة سقط سهواً لم يتذكرني أحد في التلفزيون أو الإذاعة أو النقابة في أي مشاركة أو تكريم, وأنا لست حزيناً من أجل ذلك, مع أن النقابة كرمت أولاد أولادي.
استراحة المحارب
لم استمر بعدها! سؤال يحتاج للكثير من الشرح, لكن باختصار: أراد القائد الخالد حافظ الأسد لسورية أن تكون فوق كل الدنيا, ولكن هناك أناس لم يكونوا يريدونها كذلك.. والسبب لعدم استمراري هو الإحباط فكانت محطتي الأخيرة هي استراحة المحارب, فمنذ 15 سنة وأنا موجود بعافيتي وشكلي وصوتي, لكنهم أبعدوني عن دائرة الضوء وأغفلوني دون أن أتقاعد, ولم أعرف على الأقل أن أسأل أحداً لماذا? ولا تذاع أغنياتي إلا من خلال ذاكرة التلفزيون?!
وهنا لابد أن أذكر تجربتي الأخيرة والتي كانت بإحساس كبير واندفاع وراء الرئيس بشار الأسد, بعد خطابه الذي ألقاه بخصوص خروج الجيش السوري من لبنان.
فقدمت فكرة إلى وزير الإعلام تأخذ مكانها لدى المشاهدين العرب وتوجههم قلب العروبة سورية, واستقبلها السيد الوزير بالموافقة الفورية, ووجه للمعنيين في الوزارات رعايتها, لكنها ضاعت في التلفزيون.
بعدها قدمت أغنيتين »عرس الياسمين) لكنهما لم يذاعا مطلقاً, في حين تسجل شهرياً 20 أغنية, وتبقى على الرفوف رغم تكلفتها الكبيرة!!
وها أنا المطرب السوري موفق بهجت أعيش محطة الانتظار والأمل.