فقد شغلت الأستاذة مراد الوظائف القضائية العديدة والمناصب التي وصلت إلى اثني عشر منصباً, وأكثر من منصب كانت فيه المرأة الأولى على مستوى الوطن العربي - محام عام أول - والنائب العام للجمهورية.
ومن جهتها فقد رأت تلك المناصب مسؤولية غالية حملتها في مهامها الخارجية كما الداخلية وكان بلدها راية خفاقة في وجدانها ومسيرتها المهنية وأينما توجهت, فها هي تلفت الأنظار في جنيف عبر مناقشتها التقرير الخاص بالحقوق المدنية والسياسية, في سورية, حيث حاججت الخبراء القانونيين وقدمت الوثائق لدعم ما أثارته من نقاط تضمن الحقوق السياسية والمدنية للشعب السوري.
حصلت على كتاب شكر من قبل وزارة الخارجية لحنكتها القانونية التي استثمرتها بدقة في الموقع الصحيح مدعمة بالوثائق اللازمة, وفي نفس الإطار كانت مناقشتها أيضاً التقرير الوطني الثاني أمام لجنة الخبراء لمتابعة اتفاقية حقوق الطفل في سورية.
كلفت المحامية غادة مراد بمهام عديدة منها: مفتش قضائي, عضو هيئة تدريسية في المعهد القضائي رئيسة لجنة التنسيق بين وزارة العدل ومنظمة اليونيسيف وغيرها, كما شاركت في أهم المؤتمرات العالمية والندوات المتعلقة بالجوانب القانونية والحقوقية محلياً وعربياً وعالمياً من دمشق إلى بيروت والقاهرة, جنيف, بكين وواشنطن كما أن للأستاذة مراد مؤلفات عديدة حملت عصارة خبرتها القانونية والحياتية والإنسانية منها كتاب (المرأة السورية والقانون, الطفل السوري والقانون, مجموعة التشريعات السورية لحقوق الطفل), إضافة إلى مجموعة من البحوث العلمية (المرأة وتولي القضاء, انحلال الزواج وأسبابه).. وغيرها.
الثورة التقت المحامية غادة مراد فتحدثت عن تجاربها الشخصية والمحطات الأبرز في حياتها قائلة: طفولتي الأولى كانت في حي الحريقة بمدينة دمشق, حيث نشأت في أسرة مثقفة شديدة الاهتمام بالعلم فجدي لوالدي كان مديراً لدار المعلمات وشاعراً ووالدي كان محامياً ثم عين مديراً لناحية في محافظة حلب, كما أن عدداً كبيراً من رجالات الأسرة عملوا في التدريس وساهم عدد منهم أيضاً في تأليف الكتب المدرسية.
توفي والدي قبل أن أبلغ العامين من العمر فاهتمت والدتي بتربيتنا, أخي غازي وأختي عفاف وأنا, كانت تسهر علينا الليالي وتراجع الدروس معنا فكانت تنقطع عن الزيارات العائلية أثناء مدرستنا كأنها هي الطالبة, إذ اعتنت بنا اعتناء كبيراً, أثرت بي الوالدة كثيراً ومنحتني الثقة والمسؤولية منذ صغري ولم تمانع بإرسالي في رحلة مدرسية إلى مصر للمشاركة في مؤتمر آسيوي وإفريقي وأنا في السادسة عشر من عمري ومن يسألها تجيب بأنني أعرف ابنتي وهي على قدر المسؤولية.
بعد حصولي على شهادة الدراسة الثانوية - الفرع العلمي رغبت في أن أدرس الهندسة لأنني كنت متفوقة بمادة الرياضيات, ولفت نظري نجاح ابن عم لي في مجال الهندسة بشكل كبير, لكن والدتي اقترحت علي دراسة الحقوق وأقنعتني بأن الإنسان يمكنه النجاح والتميز في أي مجال يريده, وما ساعد اقناعي أن كلية الهندسة كانت في حلب, فدخلت كلية الحقوق أسوة بوالدي وشقيقي خصوصاً أني وجدت فيها ما يرضي طموحي في المستقبل.
وبعد تخرجي انتسبت إلى نقابة المحامين بدمشق كمحامية متمرنة 1966 ومحامية أستاذة في ,1968 عملت في المحاماة لفترة طويلة ولي ذكرياتي الخاصة في هذا المجال حيث بقيت تسع سنوات محامية لم تأت امرأة كي توكلني في قضية, ومن الطريف أن أحد الرجال أوكلني وأتى بعد فترة يؤكد علي بربح الدعوى مهما كلف ذلك من ثمن فاستغربت ذلك وعندما سألته قال: عيرني خصمي بأني لو كنت رجلاً ما أوكلت امرأة, وقد ربحت تلك الدعوى وقتها, فأتى إلي فيما بعد خصم ذاك الرجل كي يوكلني في قضية له ذاكراً لي أنه أوكل رجلاً ولم يستفد شيئاً, قائلاً لي: (طلعت أحسن من الرجال)!!
بقيت في سلك المحاماة حتى عام 1975 إلى أن تم اختياري بموجب مرسوم جمهوري صادر عن الرئيس الخالد حافظ الأسد, كي أكون أول امرأة تدخل سلك القضاء في سورية بمنصب وكيل نيابة, وحتى 1979 بقيت الإمرأة الوحيدة في هذا السلك الشريف.
أما الصعوبات التي عشتها كأول امرأة تدخل هذا المجال فلابد أن أذكر هنا بأن المرأة السورية أبعدت عن العمل في سلك القضاء رغم أن قانون السلطة القضائية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 98 تاريخ 15/11/1961 لم يتضمن شرط الذكورة ولذلك في عام 1975 قررت القيادة السياسية أن تعمل المرأة في القضاء ويشرفني أنني كنت أول امرأة تعمل فيه, وكنت ضمناً أعرف أنني موضع تجربة لنجاح المرأة أو فشلها في هذا المجال, فقبلت التحدي وبذلت جهدي كي أنجح لأن فشلي سوف ينعكس حتماً على المرأة, فتتأخر إعادة التجربة.
كان وجود امرأة على منصة القضاء أمراً صعباً على المواطنين حيث اعتادوا أن يفصل في حقوقهم رجل, حتى إن أحدهم ترك قاعة المحكمة عندما رآني على القوس ظناً منه أنني سأنحاز إلى خصمه لأنها امرأة, ومن جهة ثانية حاول بعض الزملاء من القضاة إفشالي في عملي لاعتقادهم بأن الدين الإسلامي لا يسمح للمرأة بتولي القضاء, وهذا غير صحيح لأنه لا يوجد نص صريح في القرآن الكريم يمنع المرأة من تولي القضاء, وإذا أخذنا بالسنة الشريفة, فإن سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ولى الصحابية سمراء بنت نهيل الأسدية الحسبة في مكة والحسبة فرع من فروع القضاء, ولنا في رسولنا الكريم قدوة حسنة.
أما البعض الآخر من الزملاء فكان يعيب عمل المرأة في القضاء عاطفتها مما يؤثر على عدالة أحكامها, وهذا غير صحيح لأن القاضي في الدعاوى المدنية يحكم حسب الأدلة ولا مجال للعاطفة أما في الدعاوى الجزائية فإن عاطفته يجب أن تكون متناسقة مع المتهم وأمن المجتمع والضحية, وإن مثل هذا الحكم يكون في نطاق العقل والمنطق السليم, وإن المشرع نفسه أسبغ على القانون الجزائي صفة المرونة, فترك للقاضي الحرية في اختيار العقوبة بين حديها الأدنى والأقصى, وهذا الاختيار لايخلو من أن يحكم القاضي - رجلاً أو امرأة - بشيء من عاطفته الإنسانية بما يتناسب مع شخصية المجرم وحقوق الضحية والمجتمع, لكن إلى جانب هذه المضايقات لا أنكر أن بعض الزملاء كانوا حريصين علي وعلى نجاحي في هذه المهنة.
والحق يقال: إن المرأة السورية ليست الوحيدة التي عانت من دخول سلك القضاء والأمثلة العالمية كثيرة فهاهي البلجيكية ماري بوبولان تمنع من يمين المحاماة, والمرأة الفرنسية لم تكن أوفر حظاً ولم تدخل سلك القضاء إلا بتدخل المشرع الفرنسي وإصداره قانون تاتيفان عام .1944
أما أسرتي فكانت متعاونة معي وخاصة والدتي رحمها الله تفهمت طبيعة عملي وقدمت الدعم الكامل للنجاح أما ابني فقد تأثر كثيراً بعملي لذلك اختار كلية الحقوق رغم أن معدله يؤهله لدخول كليات علمية أخرى, وتمكنت من التوفيق بين الأسرة وطبيعة العمل التي تحتاج اليقظة والسرعة والحزم خصوصاً أن مناصبي القضائية كانت عديدة على مدى مسيرتي المهنية بدءاً من وكيل نيابة عامة إلى رئيس نيابة عامة بدمشق, مستشار في محكمة استئناف الجنح ثم في محكمة الاستئناف المدنية بدمشق, محام عام أول ومستشار في الغرفة الجنائية العسكرية والعقارية بمحكمة النقض وغيرها وبموجب عملي فإنني كنت أعمل خارج المنزل لفترات طويلة وكانت أقسام الشرطة على اتصال دائم معي سواء في المكتب أو المنزل وفي كل أمر يحتاج إلى إذن من القضاء, كتأمين قاض للكشف على جثة أو استلام التحقيق أو الأذن بدخول متجر أو منزل لهدم مخالفة أو التحري عن مجرم أو أدلة أو بضاعة مهربة.
وكانت محافظة دمشق واسعة جداً لأنه لم يكن الريف مفصولاً عنها وقتها وبتسلمي منصب نائب عام للجمهورية أصبحت حكماً عضواً في مجلس القضاء الأعلى للنظر في شؤون القضاة وتعيينهم ونقلهم وترفيعهم وتأديبهم, وهذا عمل كبير استغرق الكثير من وقت راحتي وأحياناً كنا نجتمع في المجلس أيام العطل الرسمية ونعمل لساعات متأخرة من الليل, وكانت تصل ساعات العمل عندي إلى 18 ساعة أحياناً, وكان لدي التحدي الكافي والصبر خصوصاً أن المجتمع والجزء الأكبر منه كان يستغرب إسناد هذه المناصب لي باعتباري امرأة والمرأة في نظرهم ضلع قاصر, لكني والحمد لله نجحت بالقيام بأعمالي بدقة ما أكد أن المرأة قادرة على العمل القضائي وفي أي موقع كان مثلها مثل الرجل.
في مؤتمر القاضيات العالمي بواشنطن كانت ردة فعلهم بالمفاجأة الكبيرة بمنصبي كونه منصباً سياسياً مهماً خصوصاً في بلد عربي ومسلم لذلك سعيت على أن أكون على مستوى المسؤولية والتوضيح لحقائق غائبة عنهم وهي كيف حفظ الإسلام للمرأة كرامتها.
أما مراكز الإراءة فقد سعيت كثيراً من أجل إبعادها عن المحاكم مراعاة لشعور الطفل حيث كانت تتم في أروقة المحاكم فيتعرض الأطفال إلى الاختلاط بالشرطة والمدعين والمجرمين وتحصل شجارات كثيرة بين الأبوين لأن جو الإراءة لم يكن هادئاً في دائرة التنفيذ, لذلك قامت وزارة العدل بالتعاون مع منظمة اليونيسيف بفتح مركزي إراءة في مدينتي دمشق وحلب وعندما كلفت برئاسة لجنة وزارة العدل للتعاون مع منظمة اليونيسيف بذلت جهداً كبيراً لتعميم التجربة على كافة المحافظات.
اطلعت على تجارب قانونية مميزة وعديدة من خلال مشاركتي في المؤتمرات الدولية فتسنى لي التعرف على قوانين هذه الدول وتجاربها فكان لي محاولاتي الخاصة في نقل بعضها لاسيما ما يناسب مجتمعنا, مثلاً فيما يخص الأحداث, فذاك الطفل الذي يرتكب جريمة لا أراه مجرماً وإنما لم تتوفر له الظروف السليمة ليعيش حياة طبيعية ولذلك يجد صعوبات في تطبيق القانون حيث يجنح من دون إرادة إلى تلك المهاوي من الانحرافات وبعد أن استضافتني دولة سويسرا مع بعض قضاة من لبنان ومصر وليبيا لمدة عشرين يوماً تقريباً اطلعت فيها على محاكم الأحداث وأماكن التوقيف والتدابير, حاولت في دمشق أن أعدل قانون الأحداث الحالي وشكلت لجنة من قضاة مختصين وخرجنا بتعديل لبعض المواد, منها على سبيل المثال محاولة وضع الحدث في الخدمة الاجتماعية عوضاً عن معهد الإصلاح ولكن هذا لم يلق آذاناً صاغية رغم ضرورة الاستفادة من تجارب الآخرين.
كما أنني حاولت كترجمة لبعض تجاربي تضمين المنهاج التدريسي في المعهد القضائي مادة (الثقافة القانونية) إلى جانب المواد الأساسية لتنوير الطلاب فيما يخص الاتفاقيات الدولية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 أو اتفاقية عربية مثل اتفاقية الرباط, أو قانون خاص, قانون العقوبات الاقتصادية - قانون الاستثمار, الجمارك وغيرها.
ورغم تقبل الجميع لهذه الفكرة واستحسانها بما فيهم رئيس مجلس إدارة المعهد إلا أنها لم تجد طريقها إلى التطبيق فكانت كغيرها من المحاولات لكن سعيّ لم يتوقف وحاولت تعديل المادة /55/ أيضاً من قانون الأحوال الشخصية بحيث يقدر مؤجل المهر حسب القيمة الحقيقية بتاريخ إيفائه, كما المادة /155/ لتقديم سكن المحضون عيناً للحاضنة وليس بدلاً لصعوبة وجود مسكن.
أما قوانين الحضانة فشاركت بكثير من اللجان المكلفة لتعديل بعض القوانين سواء تشكلت تلك اللجان من قبل وزارة العدل أو الاتحاد النسائي أو الهيئة السورية لشؤون الأسرة وما زلت أشارك ببعض اللجان حتى بعد تقاعدي من القضاء وعملي كمحامية, مثلاً شاركت في وضع مشروع الاستراتيجية الوطنية لتقدم المرأة للأعوام 2007- 2010 عبر استلامي رئاسة لجنة المرأة وحقوق الإنسان.
وأخيراً شاركت بوضع مشروع قانون إحداث صندوق خاص باسم (صندوق النفقة) وغيرها الكثير.
أما في تاريخ 29/10/2005 فقد كلفت من قبل السيد رئيس الجمهورية بموجب المرسوم التشريعي 96/2005 برئاسة لجنة قضائية خاصة تتولى مباشرة إجراءات التحقيق مع الأشخاص السوريين من مدنيين وعسكريين في كل ما يتصل بمهمة لجنة التحقيق الدولية المشكلة بموجب قرار مجلس الأمن 1595 تاريخ 7/4/2005 والتعاون مع اللجنة الدولية والسلطات القضائية اللبنانية في كل ما يتصل بإجراءات التحقيق, واعتبر هذا التكليف من السيد الرئيس تكريماً لي رغم المسؤولية الكبيرة.
ولابد من القول أخيراً: إنني حتى لو تعرضت لبعض الضغوطات أثناء عملي لكنني والحمد لله لم أتوانَ عن إحقاق الحق ونصرة المظلوم والعدل في أحكامي ولم تؤثر هذه الضغوطات علي وظيفياً لأن أحكامي كانت صحيحة.
وعلاقتي بزملائي وزميلاتي جيدة وكذلك بالعاملين حيث لم أتوانَ عن تقديم أي معلومة قانونية أو خدمة تطلب مني, وعندما أصبحت عضوة في مجلس القضاء كنت عوناً لكل من قصدني, لذلك حتى بعد تركي مهنة القضاء ومزاولة المحاماة فإن المحبة والاحترام المتبادلين وكأني ما زلت كما لو كنت على رأس عملي.