إنها ترسم بأيامها وشهورها وعقودها: ملامح كل شخص, وتطوح بنا في رحابها وتلمس بألوانها لوحتنا التي لا نعدو فيها أكثر من مكونات!!
صحيح أننا نرسم الحياة.. بيد أنها بعد سنين وسنين تفت في عضد الواحد منا يوماً بعد يوم حتى تحوله إلى جزء من اللوحة التي تصنعها, إننا في وقت ما: نعجنها على هوانا ونملأ رحابها بفوراننا وجموحنا..لكنها أهدأ بالاً إذ تعرف أن النتيجة واحدة, فالهدوء والسكينة هما منتهاها!!
كثير منا -نحن البشر-رسم في أخاديد وجهها علامة له وأنزل نجومها وكواكبها إليه, كوكب بعد كوكب حتى باتت في لوحته الشعرية أو الأدبية: مكونات لوحة يرسمها على هواه فما يفتر بهدوء هذه الحياة: فابتسامتها من بني البشر وحتى سخريتها منهم: لا تزال هي منذ عمق العصور!!
إنها تطوحنا كيفما أرادت ويحول زمنها فوراناً وجموحنا إلى هدوء وسكينة رغم أن الزمن والفعل الخلاق متحرك وليس ساكناً!!
كثير من أصدقائنا من شعراء وأدباء ملؤوا جنباتها بضوضائهم ثم سحبتهم إليها وبعثرتهم كما تريد ولا ندري لم يخف ذلك الجموح بعد مر السنين?!
ولم يختار كل واحد منا بعدها: ركناً هادئاً يستريح فيه?! ويركن على جنب: إبداعه وعمله الأدبي وكأن الدنيا ما كانت حوله ولا كانت ملعباً لصباه وشبابه?!
إننا بين الحين والآخر نفتقد أصدقاء أعزاء بعثرتهم هذه الحياة ولم نعد نسمع عنهم شيئاً ولا أعني هنا أن فعل الحياة ذاك: قضى على الجذوة المتقدة في قلوبهم, ولا على دوافع ومكونات الفعل الخلاق والابداع الجميل..فقد يكون لكل واحد عالمه الجديد المتوحد المملوء بإنجازات أدبية قد ترى النور فيما بعد.
ولا أتحدث هنا عمن غيبهم الموت عن عالمنا وأستأثر بهم بل عن الذين ما زالوا أحياء وانزووا وتركوا لنا هذه الدنيا بما حملت!!
لكني كمن يراجع شريطاً حياتياً طويلاً ضم وجوهاً من الأصدقاء والزملاء الذين عزفوا عن عالم الصحافة والكتابة في وسائل الإعلام.
فأولهم الصديق والزميل الشاعر سهيل ابراهيم الذي لم نعد نراه أو نسمع أخباره..فهو قبل أي شيء رفيق الطفولة والمدرسة والجامعة وزميل العمل الصحفي وهو هادىء ومتزن واسع الاطلاع وذو ثقافة عميقة, ولا غرو فقد تربى في أسرة علم فوالده المرحوم محمد حسن شعبان ابراهيم في مقدمة رجال الدين الشعراء المرموقين في منطقة جبلة وشقيقه الأكبر الدكتور المهندس حسين ابراهيم الذي رغم حيازته الشهادة العليا في هندسة البترول والجيولوجيا من ألمانيا هو بدوره شاعر مجيد لا أعرف لما اختار لقصائده الجميلة تلك الستارة السوداء التي لم تسمح لقصيدة واحدة أن ترى النور في الصحف والمجلات? ولطالما كان الصديق سهيل يقرأ لي بعض تلك القصائد التي يرسلها إليه من ألمانيا (حيث يدرس) يوم كنا طلاباً في المرحلة الثانوية الأخيرة وكانت أشعاراً حقيقية غنية أتمنى أن يتفرغ لها-بعد أن تقاعد-ويخرجها إلى النور يوماً ما.
أما الصديق سهيل فكلنا نستغرب ونعتب على خروجه من عالمنا لأننا أولاً نشتاق إليه, وهو ثانياً صحفي جيد وكاتب سياسي بأسلوب أدبي جميل, وهو ثالثاً شاعر لديه الكثير من القصائد الجميلة التي أود لو ضمها ديوان جديد بعد ديوانه القديم.
أما لما اختار عالمه الجديد وتركنا فلا ندري لماذا? بيد أننا نحترم صمته ونجل وحدته الاختيارية ونشتاق إليه بعد أن ضمتنا (شلة) واحدة زمناً طويلاً.
وكذلك صديقنا وزميلنا وديع اسمندر الأديب المعروف الذي ترك دمشق وسكن مدينته جبلة وانزوى عن عالمنا إلا نادراً إلى عالمه الخاص المملوء بالقراءة والتأمل وبأمواج البحر أيضاً!! ولا أعلم كم مجموعة قصصية أنجز في ابتعاده هذا فلعلها ترى النور قريباً.
وقد أبهجني فعلاً عودة صديقانا وزميلانا يوسف المحمود وهاني الحاج إلى الكتابة مؤخراً بعد أن غابا فترة طويلة عن الصحف والمجلات, يضاف إليهما الزميل القديم نواف أبو الهيجاء إذ عاد بعد طول غياب إلى دمشق التي احتضنته طويلاً.
إن الأسماء كثيرة والقائمة طويلة من الأصدقاء والزملاء الذين ابتعدوا عن الكتابة وللإنصاف لم (يشذ) عن هذه القاعدة سوى الصديقين الزميلين: نصر الدين البحرة وكمال فوزي الشرابي والزميل عادل أبو شنب ولئن كان (كمال) قد صرف اهتمامه للشعر والترجمة وبعض الدراسات الأدبية والندوات فإن نصر الدين ما زال مالىء الدنيا وشاغل الناس!! في مختلف أنواع الكتابة والتأليف والابداع القصصي ولطالما أفرحني بقاؤهم حاضرين فلا الزمن استطاع أن يؤثر فيهم أو يعطلهم لحظة واحدة وعلى وجه الخصوص أبو عمر فهو الحاضر أبداً في الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون وفي الندوات أيضاً ولئن كان ذلك شباباً فهو تعبير فصيح عن شباب الأدب عامة وديمومته.
وإن ذلك الحضور وتلك الديمومة تفرحني أيضاً لأن الحياة لم تطوحهم وما زال صخبهم قائماً تعبيراً حقيقياً عن قدرة الإنسان على المشاغبة على الزمان.