تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ألبير كامو في الذكرى الخمسين لرحيله..إلى مقبرة العظماء

ثقافة
الثلاثاء 5-1-2010م
ترجمة: مها محفوض محمد

تحتفي الأوساط الثقافية هذه الأيام بالذكرى الخمسين للرحيل المأساوي للكاتب الفيلسوف ألبير كامو الذي عاش حياة صاخبة أحب فيها النساء والفنون جميعها وترك لهذا العالم إرثاً عظيماً لا ينسى.

من قتل ألبير كامو: في الرابع من كانون الثاني عام 1960 وفي يوم ماطر عند الساعة الثانية ظهراً تعرضت السيارة التي كان يقودها صديقه لحادث أليم فودع ألبير هذا العالم وعرف الجميع أنه كان حادثاً مدبراً، ولم يعرف من قتل كامو الذي حزن كثيراًبعد مغادرته الجزائر حيث ولد وعاش، حتى جائزة نوبل التي نالها عام 1957 لم تخرجه مما هو فيه ولم تدمل جراحه.‏

وفي هذه المناسبة أفردت الصحافة الفرنسية ملفات خاصة له. رئيس تحرير مجلة نوفيل أوبسرفاتور كتب في افتتاحيته يقول:‏

من الواضح أن عددنا يتناقص مع مرور الزمن، نحن الذين نعرف من ألبير كامو الذي عايشناه وسمعناه يتحدث عن سارتر وسمعنا سارتر يتحدث عنه، ومع كل عقد يمضي على وفاته منذ عام 1960 كنت أكتب عنه وأحسب أني قلت كل شيء لكن في كل مرة كنت أكتشف أن هناك أموراً جوهرية عنه لم أكتبها بعد.‏

اليوم أعتقد أني وجدت عند كامو الحقائق التي أحتاج إليها وأنا في خريف عمري:‏

الحاجة ذاتها للثورة ضد العبث لكن أيضاً النفور من الرغبة في التمرد، ويضاف إليها قوة الرغبة في الحياة التي إذا ما أضيفت إلى فكرة اقتراب النهاية تحملنا إلى ثقافة حقيقية وولع في متعة عيش اللحظة والشعور بأن الجسد كلما هاجمه الألم يصبح قادراً على أن يولّد بذاته بلسم جراحه.‏

وتبادهني الذكريات فأرى أمامي وثيقة رائعة حول قضية رومان بولانسكي التي أسمع من خلالها صوت كامو وسارتر يصرخان بأعلى صوتيهما يسائلان الكاتب ريتشارد ورايت: كيف تستطيعون أن تتحملوا القضاء الأمريكي.‏

ثم تأتي لحظة أسمع فيها صوت سارتر جالساً بين أترابه يعبر عن خجله بأنه لم يولد بروليتارياً ولازنجياً ويكتب «إن حرية الخاضع للاستعمار لابد أن تمر بقتل المستعمر»، وفي هذا الوقت بالذات يكتب كامو - وهو الذي ولد في قلب المأساة - قائلاًً: «في اللحظة التي يفكر فيها أي مضطهد بأن يمتشق سلاحه باسم العدالة يعني أنه دخل عالم الظلم وهنا تبدأ المشكلة».‏

ابنته كاترين تقول: أهم ما علمني إياه هو الحرية، لقد كنت بين يديه كطائر ، طائر يعلم أنه يستطيع أن يطير كما يشاء .‏

أما أروع شهادة عنه فقد جاءت من الفيلسوف وعالم الاجتماع زيغمونت بومان الفيلسوف البولوني الذي عاصر كامو لفترة طويلة، وهو صاحب نظرية المجتمع «السائل» ولم يتوقف طوال حياته عن قراءة مؤلفات كامو ويأسف أنه مضى نصف قرن ونحن نعيش دون هذا الرجل العظيم ودون آرائه وأحكامه المثيرة المستفزة والتي تستنهض هممنا وتقودنا إلى الفعل، يقول بومان ذو الثقافة الانكليزية والبولونية:‏

طوال هذه السنين لم تتوقف الدراسات المخصصة لمؤلف «الغريب» و«الطاعون» و«السقوط» و«الرجل الأول» بل ازدادت وحسب الاحصاءات فهي أكثر القراءات جذباً وفي بداية تشرين الأول 2009 شكلت هذه الدراسات والمقالات نحو 3171 مرجعاً علمياً منها 2528 خصصت لدراسة فكره والمكانة التي احتلها في تاريخ الفكر وجميع الذين كتبوا عنه كانوا يطرحون السؤال ذاته:‏

لو كان كامو حياً ماذا سيكون موقفه حيال هذا العالم ، وماذا يمكن أن يقول وينصح لو لم يغيبه الموت عنا بهذه الطريقة المفجعة وتأتي تخمينات لعدة إجابات ليست غريبة عنه فهو الذي كان يقول:‏

إن فن كافكا يكمن بأنه يجبر القارئ على إعادة القراءة لماذا؟ لأن النهايات أو غياب النهايات يستدعي تفاسير عدة لا يمكن استلهامها بشكل صريح ولا يمكن إيجاد قواعد متينة لها إلا إذا أعدنا قراءة التاريخ من زاوية جديدة. بعبارة أخرى إن فن كافكا يقوم على رفض محاولة دمج ما لا يدمج أو إخماد أسئلة وجدت كي تبقى مفتوحة دون جواب تستفزنا للبحث عن جواب لها وفي أغلب الأحيان تلهمنا وتشجعنا على بذل الجهد لأن نفكر ملياً، لهذا السبب كان كامو يرى أن وحي كافكا خالد لا يموت ويقول بومان:‏

لم أتوقف ولم أنته أبداً من البحث في آلاف التفاسير لإرث كامو، وأعترف أني قد لا أكون كفؤاً لذلك فأكتفي بالقراءة والاستماع لما قاله بعد خمسين عاماً على وفاته بعيداً عن هذا العالم الذي أصبحت فيه الحداثة السائلة هي المسيطرة على معالمه وأبرز ما شدني لدى كامو هو كتابه «اسطورة سيزيف» وكتاب «الرجل الثائر» اللذان بقراءتهما ساعداني على التصالح مع ذاتي أمام هذا العالم السوق والعبثية التي نسكنها وتسحرنا يوماً بعد يوم شئنا أم أبينا، وقد لا يتفق جميع قراء كامو معي في رسالته للأجيال، لقد كان واعياً بما يكفي وكان يقاوم وبقوة كل محاولة للاستنتاج المبكر لأي مسألة تشغل العالم وبقيت أهدافه عرضة لكثير من التفسيرات والآراء، ولا ننسى أن كامو عرّف المثقف بأنه فرد يستطيع ذهنه أن يراقب الأشياء، ومنذ سنوات طلبت مني إحدى الصحف أن أوجز تفكيري بفقرة واحدة فجهدت لأصل إلى جواب ولم أجد أمامي إلا هذا القول لألبير كامو: «هناك الجمال وهناك المضطهدون ومهما تكن صعوبات أي مشروع فسأبقى وفياً تجاه الجمال وتجاه المضطهدين ولا أريد أن أكون غير ذلك». وحول ضرورة أن يختار كلُّ معسكره يقول كامو: إنه يضع نفسه دوماً في منتصف المسافة ما بين البؤس والشمس ويضيف : إن البؤس يمنعني من الاعتقاد أن كل شيء رائع تحت الشمس وداخل التاريخ فالشمس علمتني أن التاريخ ليس كل شيء ويعترف أنه متشائم تجاه القدر البشري ومتفائل عندما يتعلق الأمر بالإنسان الذي يرى فيه المخلوق الوحيد الرافض لأن يبقى على ما خلق عليه ويرى أن الحرية الإنسانية لا تقدم إلا فرصة واحدة للإنسان ليكون الأفضل.‏

إن اللوحة التي رسمها للقدر وللأفق الإنساني تبرز في منتصف الطريق بين صورة سيزيف وصورة بروميتي وقد جهد طيلة حياته كي يمزج بين الصورتين، وبروميتيه هو بطل رواية «الرجل الثائر» اختار أن يعيش حياة من أجل الآخرين ،حياة تمرد ضد بؤسهم وهذا ما قاد سيزيف لأن يتمسك ببؤسه الشخصي حتى وصل به الأمر للانتحار كمخرج وحيد أمام اللعنة الإنسانية ولسان حاله يقول: إنه في خضم بؤس حياتنا على الأرض يبدو الانتحار أجمل هدية يقدمها الإله للإنسان وفي هذا التقريب الذي يجريه كامو بين سيزيف وبروميتيه يصبح الرفض فعل تأكيد وهنا يقول:‏

«أنا أتمرد إذاً نحن موجودون».‏

ما يجعلنا نعتقد أن البشر عندما أوجدوا المثل القائمة على المنطق والانسجام والنظام لم يفعلوا ذلك إلا بدافع ظرفهم الاجتماعي.‏

حتى في مصير سيزيف الذي لا أمل له ولا نجاة أمام العبث المطلق لوجوده إلا أن هناك فضاء رغم صغره فهو رحب بما يكفي ليشد بروميتيه الذي يعيش للآخرين ،فمصير سيزيف ليس مأساوياً، كامو يرى أن السعادة والعبث هما أبناء هذه الأرض لا ينفصلان عنها وأن كل ذرة في الحجر الذي كان يحمله سيزيف فيها عناصر من الجبل الكبير الذي يشكل هذا العالم، أما الكفاح للوصول إلى القمة فهو الوحيد القادر على أن يملأ قلب الإنسان لذلك دعانا ألبير كامو لنتصور سيزيف سعيداً متصالحاً مع العالم الذي يعيش فيه، وفي هذا القبول باب التمرد ، لأن الثورة لا يمكن تجاوزها ولأنها المخرج الوحيد.‏

لقد علمنا كامو- والكلام دوماً للفيلسوف بومان- أن الثورة والكفاح من أجل الحرية لا ينفصلان عن الوجود الإنساني لكن علينا دائماً أن نراقب حدودها كي لا نقع في عالم الطغيان.‏

فكيف لنا أن نتصور أن هذا الرجل العظيم الذي يدعى ألبير كامو قد مات منذ خمسين عاماً.‏

الجدير ذكره أن الرئيس ساركوزي كرّمه بهذه المناسبة بنقل رفاته إلى مقبرة العظماء.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية