« مُرّه « التي طالما سألتها عن اسمها لكن إجابتها لم تتغير فقط كانت تقول : أنها تنتمي إلى شجرة المر، ثم تتابع بعد أن تضحك ضحكة لم أسمع أجمل منها
أنا مُرّه ولحمي مر
تعرفت عليها يوم كنت في الغربة بعيداً عن وطني أعمل في بلدة تنتمي للعالم الثالث عملياً وللعالم العاشر فكرياً، وفي إحدى المرات بينما كنت أنتظر سيارة أجرة إذ بإحدى هذه السيارات تقودها امرأة قد توقفت أمامي ولما لم نتفق على الأجرة انصرفت وما هي بضع خطوات حتى عادت السيارة أدراجها وطلبت مني سائقتها الصعود قائلة :
لن تجد توصيلة في هذا الوقت.
رميت الذهول ورائي وصعدت بجانبها وكأني متعوّد على رؤية سائقة سيارة أجرة حتى قبل ولادتي لكن الصمت أبى إلا أن يكون راكباً ثالثاً بيننا بدون قصد مني ففي الحقيقة لم أكن مهتماً بالتعرف عليها بقدر ما كنت مهتماً بمعرفة كم سيكون المبلغ الذي يتوجب علي دفعه، ومن جهة ثانية فقد أراحني صمتها وأزال عني التوتر الذي تسببه قيادة امرأة لا أعرف إذا كانت ستوصلني لبيتي أو لحتفي.
سارت الأمور على ما يرام إلى أن وصلنا إلى مفترق طريق داهمتنا فيه سيارة أجرة أخرى مسرعة من اليمين وتجاوزتنا ثم اعترضت طريقنا عن قصد.
توقفت مُرّه في آخر لحظة لتفادي الحادث المؤكد
نَزَلت ونزل السائق الذي تعمّد استثارة مُرّه قائلاً :
عشنا وشفنا امرأة تتعدى على عمل الرجال
ولحظة حسبت نفسي قد تخطيت حافة المعرفة القصوى بها كامرأة هادئة قليلة الكلام وقعتُ في هاوية الجهل وتخبطات التكهن، فقد ردّت على اعتداء الرجل بكل ثقة بالنفس:
الأفضل أن تبتعد عن طريقي حرصاً على سلامتك وإلاّ...
ثارت ثائرة الرجل أمام هذا التحدي السافر وقال :
وإلاّ ماذا ؟ أريني ماذا ستفعلين وما هو قياس زندك أم تراه نفس مقاس كعب حذائك ؟
فلم يكن من مُرّه إلاّ أن اتصلت بشرطة المرور واستدعتهم فعاينوا الحادث وطلبوا أوراق السيارتين ومن ثم قبضوا على السائق الذي لم يكف عن التوعّد والتهديد ، صعدنا السيارة وتابعتْ القيادة وكأن شيئاً لم يكن.
قلت : كان نصراً أشد مرارة من العلقم
وبدون أن تلتف إليّ حتى لا تفقد تركيزها في القيادة أجابتني وهي تضحك :
ما الفرق فأنا مُرّه ولئن كنت هناء فلست أنا ولا أعرفها.
لم تمض فترة على تعارفنا حتى أحسست أننا التقينا من قبل وراء هذا الأفق الغربي عند جبل التحدي بالذات حيث تنتهي هذه العقول القاحلة، وأننا أكلنا من نبتة الجرأة المقدسة وشربنا من نبع الخلود .
ويبدو أنها اكتشفت أنني أختلس النظر إليها لأنها أجابتني بدون أن أسأل :
نعم لا مكان للتراجع فأنا أعيش من وراء هذا العمل بعد أن طردت من وظيفتي لأنني لم أقبل مثلهم الرشوة والفساد، وأنت ما قصتك ؟
وقبل أن أجيب أوقفتْ السيارة وشمرّت عن ذراعيها وبدأت باستبدال الدولاب المثقوب بدولاب جديد.
قلت : نفس القصة مع فارق بسيط أنني عندما اكتشفت الأمور التي تحدث تحت الطاولة وفضحتهم اتهموني بالرشوة والتزوير وحاكموني وسجنوني وطبعاً هذا جزاء من يجلس بين العميان ولا يقلع عينيه.
قالت : الحمد لله على سلامة عينيك فهما أجمل ما فيك.
ابتلعتُ خجلاً كان يطمع في المزيد من هذا الكلام، وكأني لم أسمع مغازلتها تابعت :
وها أنا أنتقل من عمل لعمل مع تهمة “ مسجون “ التي لا تفارقني.
قالت وهي منهمكة في تصليح وضعية الدولاب : وها أنا أنتقل من عمل لعمل مع تهمة “ امرأة “ وليكن فأنا امرأة ولن يستطيع ابن امرأة أن يدفعني للهروب هذه المرة.
أنهت مهمتها ووقفت إلى جانبي وضربت كفها بكفي وسألتني :
أيمكن أن يكون هناك صخرة نسكن إليها وسط الرمال المتحركة حولنا ؟
أجبتها وقد التقت قطرات الثقة التي تساقطت من جبينها ببعض تفاؤلي :
أنظري حولكِ ! !.....
ومن ثم صعدنا للسيارة وبدأتُ أرى في مُرّه غير كونها السائق العجيب الذي يوصلني أشياء أخرى حلوة ومثيرة، فشعرها المجعد ورغم الربطة اللا مبالية المعكوف بها كان يعلن حرباً في عالم الجمال، وعيناها تشعان بتعب الدنيا وذكاء البشرية، وغمازتها تضفي إثارة على خدها الناعم، وبدأ خصرها النحيل المختبئ في الكرسي وراء المقوَد يميل ناحيتي كلما مالت السيارة عند المنعطفات.
قلت وقد اختصر المنعطف الأخير طريق الأسئلة الطويل بسؤال واحد
كم تطلبين مهراً لو أردتِ الزواج ؟
فأجابتني : مهري هو أجرة هذه التوصيلة.
عندئذ اتضح لي وبما لا يقبل الشك بأنها لم تكن أقل إعجاباً مني فقلت لها بكل ما أملك من صدق مشع من نظراتي وبكل المحبة المدفونة داخلي والتي انتظرت فيضاناً حان موسمه:
كانت التوصيلة عبارة عن رحلة ممتعه.. قالت : فلتكن إذن رحلة العمر.