طريقها إلى مادة مرسومة، أو مصوّرة، أو منحوتة، أو محفورة ومطبوعة بوساطة سطح طبيعي أو اصطناعي، وهي رهينة المسؤول _ الموثر، والسمسار _ المُسوّق، وصالة العرض _ الوسيطة، ولا زالت كذلك حتى يومنا هذا، مع اختلاف بسيط في المسميات والمصطلحات وأمكنة وأشكال البازار. أما من حيث الجوهر، فلم يتبدل شيء على هذا الصعيد وظلت المعادلة قائمة على طرفين أساسيين هما: المبدع وكيس النقود، بغض النظر عمن يقبض على هذا الكيس: ملكاً كان، أو أميراً، أو رئيساً، أو موثراً، أو تاجراً، أو صاحب متحف، أو صالة عرض، أو مثقفاً متذوقاً لهذا اللون من الثقافة البصريّة، قتر على نفسه، من أجل الفوز بإحدى ثمار هذه المخيلة التي يُقدر ويجل، عكس غالبية المتسوقين الآخرين لها، الذين يسعون إليها، بحكم العادة، أو التقليد، أو التزين والتباهي، أو التجارة، ومؤخراً ظهرت أهداف وغايات جديدة، لعملية التسويق الفني التشكيلي النشطة هذه الأيام، في العالم وفي بلادنا العربيّة على وجه الخصوص، منها: غسيل الأموال وتبييضها، أو التهرب من الضرائب والرسوم.
مشكلة قديمة _ جديدة
عملية التسويق الفني ليست جديدة، أو عادية، بالنسبة للفنان التشكيلي، بل هي مشكلة المشاكل عنده، عانى منها قديماً، ولا زال يعاني منها حتى الآن. في السابق، كانت الملوك وعليّة القوم في المجتمعات، أو رجال الحكم بألوانهم وأطيافهم وأجناسهم كافة، يقومون بتبني الفنان وإنتاجه، وذلك من خلال توفير فرص العمل له، ومتطلباته من المواد والخامات والأمكنة واليد العاملة المساعدة والأدوات ومن ثم الحصول على إنتاجه الفني الذي يقومون بتوظيفه في قصورهم وبيوتهم، أو في مرافق البلدة أو المدينة، لا سيما في أماكن تجمع الناس كالمعابد والمسارح والساحات، وقد تبارى الملوك والأمراء ورجال الحكم والدين، في استقطاب الموهوبين والمشهورين من الفنانين، ومن ثم الفوز بإنتاجهم. استمر هذا الوضع حتى يومنا هذا، إنما أخذ أشكالاً وصيغاً جديدة.
آراء وأدوار ومآسٍ
لعبت البرجوازيّة الوطنيّة الثوريّة دوراً إيجابياً في تطوير ورعاية وتشجيع الفن، خلال فترات تاريخيّة مختلفة، ولا زالت تلعب هذا الدور في أيامنا. كما لعبت الكنيسة دوراً مماثلاً مطالع عصر النهضة، رغم تجييرها إنتاج الفنانين لموضوعات دينيّة خاصة، عززت من خلاله، دورها في السيطرة والنفوذ على عامة الناس وعلى الحكام في آنٍ معاً، ثم جاءت البرجوزايّة الجديدة لتنتخب نوعاً معيناً من الاتجاهات والمواضيع الفنيّة، عن طريق توجيه الفنانين لإنتاجها دون غيرها. مع بداية عصر الرأسماليّة، بدأت مشكلة تسويق العمل الفني تأخذ اتجاهات جديدة، فارضة وجودها بإلحاح في عالم المبدعين الذين عانوا شتى ضروب الاضطهاد المادي والمعنوي والطبقي، ولا يزالون يعانون حتى يومنا هذا، من هذه التداعيات، لأن معظمهم لا يمثلون الطبقة الحاكمة «السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة» وإنما يمثلون فئة اجتماعيّة مثقفة، تنتمي لشرائح مختلفة، في الغالب، لا تمتلك متطلبات تحقق العبقريّة الفنيّة، في مادة ملموسة، وليس لديها الأمكنة القادرة على احتضانها، ما يدفع بالمبدعين لبيع عبقريتهم كما يبيع العامل قوة عمله. هذا الوضع، يدفع بغالبية الفنانين في العالم الرأسمالي لتبني الاتجاهات «البروليتاريّة»، ما يزيد من نفورهم عن الطبقة السائدة. ولأنهم مضطرون لبيع نتاج عبقريتهم من أجل الاستمرار في الحياة، لا بد لهم من إرضاء المستهلك، وتالياً لا بد لهم من أن يكونوا قريبين من كيس النقود الذي شكّل ولا زال، منبع مآسي الفنان ومشاكله، ومن ثم، ينعكس كل ذلك، على المنتج الفني، وهذا ما يفسر الانفلاش العجيب، لفنون الطليعة وما بعدها، وولادة الاتجاهات الفنيّة العابثة، الغامضة، الضائعة والمضيعة، والمدمرة لتاريخ الفن الإنساني الطويل، والقيم الفنيّة الرفيعة التي تراكمت خلال أحقاب هذا التاريخ المختلفة.
ولأن الرأسماليّة المعاصرة ذكية، وخبيرة، وتعرف كيف تستغل المبدعين، فقد ازدادت وتلونت مآسي أصحاب العبقريات الفنيّة، ودفعتهم للاغتراب عن ذواتهم وطبقاتهم الاجتماعيّة، وأدخلتهم إلى دوامة من الضياع حرفتهم عن المهمة الأساسيّة والنبيلة للفن، في تجميل الحياة، وجعلها أكثر شهيةً وترتيباً ونظاماً وإنسانيةً، وقذفت بمعظمهم إلى حالة من الفوضى والعدم والضياع، وإدمان الخيال العاطل، والممارسة الشاذة، ومن ثم اجتراح فنٍ تافه وسقيم وبائس، غريب عن الناس وعن وهج الإبداع المفعم بالحياة، المتقد بالجمال.
بيع الموهبة
والحقيقة، لا مندوحة أمام الفنان في المجتمع الرأسمالي، لكي يعيش، من بيع موهبته للقابضين على كيس النقود. ولأن الفنان غير قادر على الإنتاج، والترويج، يقوم برهن فنه ونفسه لصالات العرض والمزادات الفنيّة، وأصحاب هذه الصالات والمزادات هم من المسؤولين والموثرين وأصحاب البنوك والمعامل والشركات الصناعيّة الكبرى، فهو مضطر لإخضاع فنه لمصالحهم التي في غالبيتها مشبوهة الأهداف والغايات.
أمام هذا الواقع، يجد الفنان نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: فإما أن يخضع لقانون العرض والطلب، فيمارس غير قناعاته، ويبيع نفسه، وإما أن تتكدس أعماله في محترفه، ليأكلها الإهمال، وتقتلها الرطوبة، ومن ثم البحث عن باب آخر للرزق، بهدف الاستمرار في العيش، لكن بعض المبدعين المسكونين بالفن من رأسهم حتى أخمص أقدامهم، تصبح عملية اجتراح الفن لديهم مظهراً من مظاهر الحياة الذي لا بد من ممارسته، رغم كل الظروف وحالات الإحباط التي يعيشونها، إن على الصعيد المادي أو الروحي. بل إن عملية الاجتراح هذه، تتحول لدى بعضهم إلى نوعٍ من الإدمان الجميل الذي لا مندوحة أمامهم من تعاطيه.
هنا لا بد من الإشارة إلة نقطة مهمة لها تأثيرها الواضح على تحديد نوع القرار الذي ينتهي إليه الفنان المبدع، هي الأصول الطبقية التي جاء منها، ودرجة وعيه الاجتماعي والسياسي وثقافته ومدى قدرته على تأكيد انتمائه لطبقته أو الانسلاخ عنها وخيانتها. فالواقع قدم لنا شرائح كثيرة من الفنانين، خانوا طبقاتهم وقضيتهم، وارتضوا لأنفسهم الانضمام إلى خدم البرجوازية وأتباعها ومَنْ تشبه بها، والعكس صحيح أيضاً، إذ أن العديد من الفنانين، انسلخوا عن طبقاتهم البرجوازيّة، والتزموا قضايا الطبقات الكادحة والمسحوقة، ووضعوا أنفسهم وفنهم في سبيل الدفاع عن قضايا هذه الطبقات، والانتصار لها.
ازدواجيّة الانتماء
على هذا الصعيد يثير علم الجمال اللينيني _ الماركسي نقطة هامة هي ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن مصالح الفنانين الشخصيّة، وأهداف نشاطهم الإبداعي، ترتبط في المجتمع التناحري، لا بالمصالح الماديّة والروحيّة للطبقات المُسَيطِرة فحسب، وإنما بالطبقات الأخرى أيضاً، لأن الفنان في الأساس، فرد كادح، يصنع القيم الروحيّة، شأن الحِرفي الذي لا يستغل عادةً مجهود الغير، وإنما ينتسب هو نفسه إلى صف المُسّتَغَلين، وغالباً ما يكون منحدراً من طبقات مظلومة. من هنا نشأ لدى الكثير من الفنانين عقيدة ديمقراطيّة تبيح لهم فهم احتياجات الجماهير الكادحة ومصالحها، والتعاطف مع معاناتها، وتصوير هذا التعاطف في الفن. لكن مكانة الفنان المزدوجة في المجتمع الاستغلالي كممثل للمثقفين، مرتبط بالطبقات المتسلطة، وككادح مرتبط بالشعب، تؤول غالباً إلى تناقض في وعيه وعقيدته وإحساسه بالعالم، ما ينعكس في أعماله الفنيّة التي تصوّر وجهات نظر طبقات مختلفة.
هذه الازدواجيّة، وهذا التداخل المتناقض الذي يعيشه الفنان، يُشكّل منعطفاً خطيراً، عادة ما يقوده، وتحت إلحاح حاجته للتسويق الفني، إلى التزام الطبقات المتسلطة الأقوى مادياً ونفوذاً، ضارباً عرض الحائط مبادئه وأحاسيسه وعواطفه ووضعه الأساسي ككادح مرتبط بالشعب وقضاياه الإنسانيّة العادلة والنبيلة. من هنا تأتي الخطورة في عملية تسويق إنتاجات المبدعين من الفنانين التشكيليين. فالمتحكم بناصية التسويق الفني، متحكم بالضرورة بناصية الفنان وفنه، فإذا ما كان هذا المتسلط ظلاً للسلطة البرجوزايّة الحاكمة، وخادماً أميناً لمصالحها، حرف مسار الفنان وفنه في الاتجاه الذي ترغبه هذه السلطة، أما إذا كان العكس «وهذا الأمر لم يتحقق إلا في المجتمعات الاشتراكيّة المعاصرة، ولن يتحقق إلا في مجتمعات مماثلة» توجه الفنان إلى الطبقات المظلومة والمُسّتَغّلة، واضعاً نفسه وفنه، في خدمة قضاياها العادلة والنبيلة، غاضاً النظر عن إغراءات «كيس النقود» ونعومة اليد القابضة عليه، والملوحة له به. وهنا لابد من الإشارة إلى الدور الإنقاذي الهام، الذي يمكن للسلطة الوطنيّة، أن تلعبه، عندما تحل محل هذا «الكيس» وهذه «اليد»!!.