تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الطرافة وتنويع العبث

ملحق ثقافي
5/1/2010م
المؤلف:د. صلاح صالح:يصعب العثور على امرئ ذي شخصية نظيفة من مركّب السخرية،

فالسخرية بإطلاق المعنى «من الذات والآخرين والعالم..» مكوّن أساس من مكوّنات الشخصية الإنسانية، ومن البدهي أنه مكوّن قابل للتفاوت من شخص لآخر، فربما يضعف ويضمر إلى حدّ يقارب العدم، وربما يطغى إلى حد طمس سواه، ودمغ الشخصية بدمغته الخاصّة. وفي السرود الفنّية ذات المنحى الواقعي، أو تلك التي تجعل الواقع مرجعاً،‏

تمضي بالشخصية المقتطعة من الواقع إلى شحنها بالمزيد من مكوّناتها الكفيلة بجعلها شخصية فنّية ذات تطرّف مناسب لجعلها تمثيلاً لنمط سيكولوجي اجتماعي ما، كالشخصية الساخرة المتطرّفة في سخريتها، إلى درجة عدّ ملمح السخرية سمة دامغة لها، على طريقة العلامة التجارية للسلعة الخاضعة لمبدأ الترويج.‏

يتوزّع مركب السخرية في عدد من العناصر الأوّلية العديدة، كالعدوانية، ومقادير من الغيرة، ومقادير من الحقد، والميل إلى الظرافة، ومقادير من الشعور بالنقص، وشيء من فقدان الإيمان بالجدوى، والانسياق في مسلك العبث، بالترافق مع الشعور بالأفضلية والاستعلاء.. إضافة إلى عناصر أخرى أكثر ضموراً، وأكثر تراكباً وتعقيداً، تخرج عن نطاق اهتمامنا، وتكفي المكونات الرئيسية المشار إليها لجعل الشخصية الفنية، أو الواقعية في مرمى الغواية لتناولها في السرديات ضمن عدد من النصوص التي يصعب حصرها على المستويين العربي وغير العربي. وخصوصاً في حال تجاوز النصوص النثرية إلى موازياتها الشعرية التي كانت الأسبق في الظهور على الصعيد العربي، كما في هجائيات الحطيئة التي يمكن عدّها تأسيساً ثقافياً عربياً لمجمل فنون السخرية النثرية اللاحقة، إذ تضمّنت نصوصه معظم العناصر الأوّلية المكوّنة لمركّب السخرية كالعدوانية القصوى التي تخترق دائرة العالم وصولاً إلى الدائرة الاجتماعية الأضيق «الأب، والأم، والزوجة، والأبناء الذين هجاهم الحطيئة» لتنفذ بعدئذ إلى الذات الفردية في بيتيه المشهورين المشحونين بعدوانية قلّ نظيرها تجاه الذات والعالم، واقتران العدوانية بمركّب النقص النابع من ضياع النسب، والفقر، والحاجة إلى الآخرين الذين يراهم أقلّ منه شأناً، وضآلة الحجم، ودمامة الوجه، وترافق ذلك بشعور موازٍ عارم من الفوقية والاستعلاء على الآخرين، شعور نابع من الثقة المفرطة بالذات، والتمتّع بالذكاء الفذّ، والثقافة، والموهبة الشعرية:‏

أبت شفتاي اليوم إلاّ تكلّماً‏

بسوء، فما أدري لمن أنا قائلهْ‏

أرى لي وجهاً قبح الله منظره‏

فقبّح من وجـه، وقُبّح حاملهْ‏

كانت هجائيات الحطيئة نصوصاً تأسيسية بُنيت فوقها نصوص لاحقة عديدة، كبخلاء الجاحظ، وبعض نصوص أبي حيان التوحيدي، ومقامات الهمذاني والحريري، على سبيل المثال لا الحصر بطبيعة الحال، ولا يمكن عزل نصوص اليوم عن أسسها النصية التراثية المشار إلى أمثلة منها، بالإضافة إلى موازياتها في النصوص الغربية، كما في العديد من نصوص نجيب محفوظ التي تبرز فيها شخصية «محجوب عبد الدايم» في «القاهرة الجديدة» مفتتح رواياته غير التاريخية، إذ كان من غير الممكن بناء هذه الشخصية وفق الطريقة التي بُنيت عليها، من غير تأسيسها على مدوّنات نصّية عربية وغربية عديدة، يبرز من بينها أعمال غوغول الملقّب بملك الاستهزاء، ويبرز في الأسس أيضاً شخصية إيفان كارامازوف الذي تمثّلت سخريته في ما يمكن أن نسميه عدميّته، أو عبثيّته، المتمثّلة في إلغاء مبالاته بذاته، وبمصيره، وبالآخرين، وفقدان الإيمان بشيء، واليأس من جدوى الوجود، وتصادي ذلك في شخصية محجوب عبد الدائم الذي تجلى موقفه من الذات والعالم، وجميع ما يقع بينهما في معادلته الشهيرة التي صاغها ساخراً: “الدنيا + العلم + الفلسفة + الأخلاق = طظ” مع حرص نجيب محفوظ على تمصير شخصيته تمصيراً يمنحها دنوّها من إمكانية عدّها شخصيّة أصيلة مصنوعة ضمن مطبخها المصري المنقطع عن صلاته بغيره، حين قبل محجوب أن يعمل قوّاداً لزوجته، وأن يترك والديه اللذين أفنيا عمرهما في سبيل تعليمه للفقر المدقع، وفظاعة الجوع.‏

يمكن الذهاب إلى أن وجود مركّب السخرية في بعض شخصيات نجيب محفوظ يأتي على سبيل التنويع في بناء شخصياته المختلفة، لكن متابعة أعماله اللاحقة تفضي إلى أن فكرة السخرية بمستوياتها جميعها ثيمة أساس في سرود نجيب محفوظ، بدءاً من اللامبالاة، والهزء، وانتهاء بحالة التهكّم المتضمّنة للدرجة القصوى من العدوانية المستبطنة في السخرية، عبر الإصرار على الحطّ من شأن الآخرين الواقعين في مقصد السخرية، والرغبة بإلحاق الأذى المعنوي بهم، بسبب تعذّر إلحاق الأذى البدني، أو المادي. ويمكن الزعم بأن الشخصيات الساخرة لدى نجيب محفوظ شخصيات مقتطعة من مرجعياتها الواقعية المصرية الصرفة، مثلما يمكن الزعم بتأسيسها على موازياتها النصّية السابقة في الثقافتين العربية والغربية، والأنسب في مثل هذه الحالة دمج العاملين المرجعيين الواقعي والنصي، مع ترجيح العامل النصي على أساس الفكرة الذاهبة إلى حصر انبثاق «الثقافي» عن «الثقافي»، كما في حالة الشعبية الكبيرة التي حظي بها مسرحا العبث واللامعقول في أوربا والمنطقة العربية على حد سواء، بوصف العبث غطاء أشمل، ومستوى عميقاً وخاصّاً من مستويات السخرية ومكوّناتها المركّبة العديدة، في الآن نفسه. ويتمثّل ذلك بتحول السخرية إلى تجسيد للموقف العابث واللامبالي من الذات والعالم، والانتقال بالحالة من الرؤية النظرية إلى الممارسة اليومية التي التزمتها شخصيات «ثرثرة فوق النيل» عبر التعاطي اليومي للثرثرة التي لا تفضي إلى شيء، أو تفضي إلى مجرّد تجسيد حالتي العبث والانغماس في العدمية والتلاشي اليومي وديمومة تكرار ممارسته على طريقة سيزيف، فقد مارسَ دورانُ جوزة الحشيش فيما بين الأصحاب دورةَ السعي المجاني اليومي المفضي إلى اللاشيء، وهم قابعون مأسورون في قوقعة ضيقة داخل عوامة تطفو على الماء، للإشارة إلى أن وجودهم بكامله وجود عائم في المكان، يتكفّل تعاطي الحشيش بجعله عائماً في الزمان أيضاً، وعندما يخرجون مرّة، مرّة واحدة فقط، من العوّامة/ القوقعة إلى الحياة القائمة خارج القوقعة، يدهسون رجلاً بريئاً، كان بدوره منقطعاً عن التجسّد في المكان والزمان، إذ ذهب تقرير الشرطة إلى أنه مجهول الهوية والنسب والمهنة، وكأنه ليس موجوداً إلا بوصفه تنويعاً إضافياً لتمثيل فكرتي العبثية والعدم، وعاقبة أخلاقية أراد الكاتب إنزالها بتلك الشخصيات.‏

لقد أدّى تزاحم التيارات الفكرية الأوربية العديدة واصطخابها في وجدان إيفان كارامازوف إلى جنونه، ثم الحكم عليه بالنفي إلى سيبيريا، أو الإعدام، لا فرق. لمقاصد عدّة، من بينها تجسيد التخبّط الذي عاناه المثقفون الروس الذين قصروا مناهلهم على التيارات الفكرية الأوربية الحديثة. وعوقب محجوب عبد الدايم بنقله تأديبيّاً إلى أسوان، وذهب زملاؤه خريجو الجامعة المصرية مذاهب شتى متراوحة بين الاتجاهين السلفي والأوربي. وقد انفتحت عبثية كارامازوف، وعدميته، باتجاه إطلاق الأسئلة المقلقة في شتى الاتجاهات، واقتصرت شخصية محجوب عبد الدايم، والأصحاب المثرثرون في «العوامة» على تجسيد فكرة العاقبة الأخلاقية التي أنزلها الكاتب - ضمن لبوسها المصري- بأولئك الساخرين العابثين، المفتقرين إلى الحد المناسب من الإيمان بجدوى الوجود. ومع اقتراح هذا الفرق الحاسم بين عبث وعبث، وبين سخرية وسخرية، حتى لو كان فرقاً في العاقبة، لا في الواقعة، لا يمكن إغفال الجاذبية العالية التي تتمتّع بها الشخصية الساخرة، أو العابثة، أو الهجّاءة، بوصفها شخصية قادرة على تشخيص مواطن الداء، وتحريضنا على معاينة مختلف العيوب والعاهات الفردية والمجتمعية، وعلى إبراز أوجه لا حصر لها من أوجه «الحقيقة» بوصفها تعيّناً واقعياّ، وبوصفها أيضاً مفهوما ًفلسفياً. لقد ذهب أرسطو إلى أنه قد يعجز عن تعيين الـ «حقيقة» أو الـ «صحيح»، لكنه قادر ببساطة على تحديد مكمن الغلط. وفي سياق موازٍ مضى الشاعر عبدان في تراثنا القديم إلى ربط الحقيقة والصحيح بالهجاء، لا بالمديح:‏

وقالوا: في الهجـاء عليك إثمٌ‏

وليــس الإثم إلا في المديحِ‏

لأني إنْ مدحتُ مدحتُ زوراً‏

وأهجو، حين أهجو بالصحيحِ‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية