تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


المصطلح الملتبس

ملحق ثقافي
5/1/2010م
المؤلف:خطيب بدلة: “ملاحظة: هذا ليس بحثاً نقدياً في الأدب الساخر،

بل هو عبارة عن مناقشات ومساجلات كنت طرفاً فيها خلال تجربتي الأدبية التي يصفها بعض النقاد بأنها ساخرة”.‏

السخرية مصطلح ملتبس، لأنه يتجاور مع مصطلحات أخرى تشبهه وتقاربه في المعنى كمصطلح “الفكاهة” التي يحتاج صنعُها- بحسب شوقي ضيف- إلى ذكاء، وخفة، ومهارة، ودهاء، ومكر،.. ومصطلح «الكوميديا» الذي ينشأ عن الفنون البصرية والمسموعة أعني المسرح الإذاعة والسينما والتلفزيون، وأصله يوناني أطلق على الفنون التي تُعنى بالمفارقات التي تنشأ عن التباين في طباع البشر.‏

وقد قُسمت الكوميديا إلى نوعين، الأول هو كوميديا الموقف، والثاني يقترب من التهريج ويصطلح على تسميته بالـ «فارْس»، فتجد في الفارس مَن يحول عينيه ويظلع في مشيته ويتحدث من أنفه بغنة.. وكأن المؤلف والمخرج والممثلين يريدون أن يجبروا المشاهد على الضحك إجباراً.‏

ولدينا أيضاً مصطلح «الكاريكاتير» القادم من مجال الفنون التشكيلية، ومعروف أن الصحافة اجتذبت هذا الفن واحتضنته، ورعته، وطورته، وقد أصبح من أرقى الفنون الساخرة.‏

ثم نأتي إلى المصطلح الأشمل وهو السخرية «sateir»، الذي يعني: رسم وصناعة أجواء تتظاهر بالحياد واللامبالاة، ولكنها تثير مشاعر الاستهزاء والانتقاد والضحك والإقلال من شأن الظاهرة المقصودة، على أن تستفيد السخرية من كل المفاهيم والمصطلحات المجاورة لها.‏

وقد ذهب الكثيرون إلى أن الرجال المُسَيَّسين يستخدمون السخرية للنيل من خصومهم، كما فعل الجاحظ في رسالة التربيع والتدوير حينما وصف خصمه المدعو أحمد بن عبد الوهاب وصفاً كاريكاتورياً مدهشاً فقال في المقدمة: كان أحمد بن عبد الوهاب مربعاً، وتحسبه لضيق أضلاع صدره واتساع جفرته مدوراً...‏

وكذلك تستخدم الشعوب المُضْطَهَدَةُ أسلوب السخرية للنيل من حكامها المستبدين مثلما فعل أبو حيان التوحيدي في كتابه الشهير: مثالب الوزيرين، ومثلما يفعل الكتاب المعاصرون “المعارضون” في كل مكان.‏

إن الأدب الساخر كان وما يزال مثار نقاشات طويلة بين النقاد والمفكرين والباحثين، وقد ألفت حوله كتب كثيرة، بعضها مهم وبعضها ممل، حتى إن الكاتب المجري الساخر جورج مايكيش يقول: إن الكتب المملة التي كتبت بقصد الإضحاك أكثر بكثير من الكتب المملة الأخرى.‏

وبرأيي أن أول ظهور للأدب الساخر كان مع شعر الهجاء، وهو يتضمن سخرية مباشرة وصريحة وتنطوي على عدوان أو هجوم عنيف من شاعر على آخر، أو على قبيلة، أو قوم. والهجاء أنواع، الأول مسطح يكيل السباب للمهجو بعيداً عن الفن، كقول الحطيئة للزبرقان بن بدر:‏

دع المكارم لا ترحل لبغيتها‏

واقعد فأنت الطاعم الكاسي‏

والثاني ينطوي على خيال فني بارع يبلغ منزلة الكاريكاتير، كما في وصف ابن الرومي لشخصية أحد خصومه ويدعى المغيرة، إذ يقول:‏

وجه المغيرة كله أنـفُ‏

موف عليه كأنه سقـفُ‏

من حيثما تأتيه تبصـرهُ‏

من أجل ذاك أمامُهُ خلفُ‏

وأما النوع الثالث، وهو الأرقى، فيركز على هجاء الطباع والأساليب البالية، والدليل عليه من عند أبي نواس الذي سخر من الشعراء الذين يقفون على الأطلال بقوله:‏

أيها الباكي على رسم دَرَس‏

واقفاً ما ضر لو كان جلس!‏

وتجدر الإشارة هنا أن ما فعله الجاحظ في “رسالة التربيع والتدوير” وابن الرومي الذي هجا رجلاً أحدب فصوره على نحو كاريكاتيري وبعض الكتاب الذين يسخرون من رجل يعاني من آلام في ظهره أو ساقيه، أو ممن فقد بصره أو إحدى عينيه، إنما هي سخرية ظالمة وغير إنسانية، لأن هذه العاهات ليست من صنع يد الإنسان.‏

ولنتابع مسار الأدب الساخر. ففي مطلع القرن العشرين ظهر في مصر إبراهيم المازني الذي يمكن اعتباره بشكل أو بآخر الرائد الأول للكتابة الساخرة العربية في العصر الحديث. اختص المازني بكتابة القصة الساخرة التي تنطوي على الكثير من الإضحاك، بلغة عربية فصيحة ورصينة، تجدها جلية في كتابه “حصاد الهشيم”.‏

في قصة “ليلة حافلة” التي قرأناها في إحدى مراحل الدراسة الثانوية صور المازني مأتماً والنساء فيه يمتنعن عن تناول الطعام، بسبب حزنهن على الميت، ولكن هؤلاء النساء كن يتسللن إلى غرفة قصية ويلتهمن من الطعام ما لا يحسب الحاسب! ولعل استفادته من رسالة التربيع والتدوير كانت واضحة في نص له رسم فيه شخصاً غليظاً كان يأتي لزيارتهم فيقول: ضحكته خرخرة، وحديثه طرطرة، وتنفسه كمص الماء من كوز نصفان!‏

ولم تتوقف السخرية عند حدود الفنون النثرية والمسرحية والتشكيلية الكاريكاتيرية، بل إن الشعر الحديث استعاد أمجاده الهجائية القديمة فقد ظهر في مصر الشاعر حسين شفيق الذي كان يصوغ سخرياته شعراً أسماه “الشعر الحلمنتيشي”، وهذا الشعر الذي نشأ في مصر، تطور وازدهر في سورية، وكان له أعلام كبار كصدقي إسماعيل الذي كان يصدر جريدة يكتبها بخط يده، عنوانها “الكلب” وكلها شعر ساخر، وشعارها الدائم هو:‏

إن خير القراء مَن لا يضوجُ‏

ذنبُ الكلـب دائـماً معووجُ‏

ومن أهم كتاب الشعر الساخر في سورية عبد السلام العجيلي وحسيب كيالي وغازي أبو عقل وأحمد إبراهيم عبد الله ووجيه البارودي وسعيد قندقجي ومحمد الحريري وصولاً إلى محمد شيخ علي الذي ألف قصيدة حلمنتيشية طويلة أسماها المنحوس، يمكن اعتبارها ذروة الذرى في السخرية السوداء المتميزة، يقول فيها:‏

لم يبق للصبر احتمالْ‏

يا سادتي‏

سأذيع سراً ليس ضرباً من خيالْ‏

أخفيته حتى فشاه أبي فقالْ:‏

يا بني ولدتَ بليلة كانت دقائقها ثقالْ‏

كان الظلام جحافلاً والسيل قد غمر الجبالْ‏

وسطا بها ذئب على سرب السخالْ‏

وبليلة الميلاد قد خُسف الهلالْ‏

يا سادتي والحق أجدرُ أن يقالْ‏

إني امرؤ شؤم وأنحسُ كلَّ فالْ‏

وإليكم بعض الوقائع من مفكرة الكوارث والوبالْ‏

أمي بُعَيد ولادتي مرضت بأورام الطحالْ‏

وأبي تعرض لاعتقالْ‏

وأخي رآه مقيداً فبكى وبالْ‏

عمري بعمر الاحتلالْ‏

وختنت في يوم فكان الانفصالْ‏

وبعرسي الميمون قد عبر اليهود إلى القنالْ‏

ولأنني زرت الكويت وعدت حل بها النكالْ‏

وحججت للبيت العتيق فعاث فيه أبو رِغالْ‏

أحببت فاتنة فماتت بغتة دون اعتلالْ‏

وعرفت مسؤولاً فقيل أقيلَ‏

ثم عرفت آخر فاستقالْ‏

ولأن شخصاً كاد يشبهني تدلى عنقه تحت الحبالْ‏

يا نحس هل لك من زوالْ‏

كم مرة قد غبت عنك فرحت تتبع كالظلالْ‏

إن عشت عاماً آخراً فلربما تلد البغالْ‏

ولربما حاض الرجالْ‏

وظهر في مصر عبد العزيز البشري الذي كان يسجل ما يراه في الحياة من مواقف ويصوغها على شكل مقالات ساخرة، وظهر في سورية أدباء ساخرون كثيرون في أواسط القرن الماضي منهم حسيب كيالي الذي كان يعتمد على إحالة النص المكتوب إلى منظومة عادات ومفاهيم تسود في ريف بلدته إدلب، وقد نحت لغة للكتابة هي عبارة عن صياغة العامية الإدلبية بلغة عربية فصيحة وسليمة منطلقاً من حالة معرفية وثقافية عالية،.. وعبد السلام العجيلي الذي تركزت سخرياته على التقاليد السائدة من خلال كتابه عيادة في الريف، ومقاماته الطبية التي تضحك الثكالى، وقد ألف العجيلي وحسيب كيالي ومواهب كيالي سنة 1951 عصبة أسموها عصبة الساخرين، فكانوا يجتمعون في مقهى البرازيل بدمشق ويقرأ كل منهم للآخرين آخر إبداعاته الساخرة. ومن بعد ظهرت السخرية السوداء على يد محمد الماغوط الذي كتب مقالات ساخرة مهمة نشرها في مجلة المستقبل ثم طبعها في كتاب أسماه: “سأخون وطني”. وظهر في لبنان كاتب ساخر هو مارون عبود وآخر هو محمد عيتاني.‏

وظهر إميل حبيبي في فلسطين، الذي اعتمد على اللغة التراثية في صياغة نص معاصر ساخر، وبالأخص في مسرحيته لكع بن لكع، وروايته الوقائع الغريبة لاختفاء سعيد أبي النحس المتشائل..‏

وأما محمد عيتاني فقد أدخل سخريته في الأجواء البيروتية وكيف يتصرف الفلاح اللبناني وسط المجتمع المخملي!‏

في الجيل اللاحق لهؤلاء الرواد ظهر كتاب ساخرون لا يقلون أهمية عنهم، أذكر منهم أحمد رجب وأحمد النشار في مصر، وعبد اللطيف الزبيدي في تونس، وفي سورية وليد معماري وحسن م يوسف وتاج الدين الموسى وأحمد عمر ومالك صقور ونور الدين الهاشمي، ومحمد أبو معتوق في بعض نتاجه القصصي. وفي الأردن محمود عيسى موسى، وفي لبنان سحبان أحمد مروة.‏

هنا، أقصد في العصر الحديث، تعددت أغراض السخرية وموضوعاتها، فأصبحت ترى من يكتب ساخراً عن مدير دائرته، وعن الأزمات المعاشية، وعن اختلال الميزان بين الطبقات، والسياسات المحلية والعربية والدولية.‏

وأخيراً: إن الأدب الساخر أدب نادر جداً، وقد عبر عزيز نيسين عن ذلك بقوله:‏

لا يولد جوجول في كل زمان‏

لا يولد موليير في كل زمان.‏

تعليقات الزوار

سعد فادي |  fadisaad90@hotmail.com | 07/01/2010 12:08

الأستاذ الكبير خطيب بدلة سرني ما جاء في مقالتك وأود أن أشير الى أنه بجانب الأسماء التي ذكرتها هناك قلم يشبه الصاروخ في سخريته الأدبيةاسمه (مانيا سويد) فقد قرأت لها مجموعة قصصية تحوي درر بعنوان عناقيد اللؤلؤ الأحمر أرجو الرجوع اليها لاسيما وأن الأديبة سورية لكنها تعيش خارج سوريا

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية