نَشَر ملاحظةً ساخرة عميقة الدلالة صادقة الرؤية، تلخص إلى اليوم “في رأيي” واقعَ السخرية الراهنة، مع أنه كتبها في عدد تموز من سنة 1969. يومئذ كان مسرح الشوك قد جرى تنصيبه صَمّاماً لتخفيف ضغط الاحتقان، فجذب إليه كثيرين نساءً ورجالاً. لفتت الظاهرة انتباه مؤسس “الكلب” فأوقف عليها بيتين من ذلك العدد، وضعاها في مكانها المناسب. قال أستاذنا:
مًسرحُ الشَّوْكِ، شَوْكُهُ يُضحِكُ الناسَ وهذا من أغربِ الأشياءِ
أصبحوا يَشبعونَ.. إنْ أكلوا اليومَ هواءً ويَسْكَرون بماءِ
تنطبق هذه “الحكمة” على ما كان منشوراً من “سخرية ونقد”، أما غير المنشور فمن العسير الحكم على مدى انطباقها عليه... ولو أن الساخرين إلى يومنا هذا، وضعوا تلك الحكمة نصبَ أعينهم، لوَفَّروا على أنفسهم عناءً كبيراً... ولربما أقنعَتْهم بضرورة إخفاء الصفحات الساخرة في وسائل الإعلام المتنوعة، هذا إذا لم أنوّه إلا بها توفيراً على القارئ مَشقةَ إحصاء ما يُنشر هنا وهناك من “نقد ساخرٍ سافِر”... ربما لأن النقدَ المُنَقَّب يمتاز بجاذبية أقوى.
رحل أستاذنا المؤسس صاحب تلك الحكمة منذ أيلول 1972 كما هو معروف، ومَرَّت صحيفته بعدَه بأوقات متفاوتة الأفراح والأتراح، إلا أنها استمرت مع ذلك... حتى أن واحداً من المعجبين بأسلوب الصحيفة، نسجَ على منوالها وسماها “الكلب الحديث”، وكتبَ منها مجموعة من الأعداد غطَّت عامي 1989 و 1990. في الوقت الذي كان فيه واحد من المحررين المتمرنين في الكلب العتيق يوالي إصدار الصحيفة القديمة.
سخر محرر الكلب الحديث في عدد حزيران 1989 من الندوات المتلفَزة التي كانت قد بدأت “تذر قَرنَها” على الشاشات. وعلى ما يبدو، كان قد شاهد عدداً من الندوات “الفكرية” التي أدارها مدير واحدةٍ من وسائل الإعلام، فكتب محاكاة ساخرة – PARODIE - جعلَ موضوعَها ندوة فكرية للبحث في مسألة الأُغنية. “أعتذر من الصديق الأستاذ كاتب هذه المحاكاة الساخرة إن لم أنوه باسمه لأنني لم أتمكن من استئذانه بنشرها مسبقاً”.
ندوة فكرية
مدير الندوة:
يا سادتي في هذه الأُمسية سوف يكون البحثُ في الأُغنيةْ
وهل هي اليوم كما ينبغي أم أنها بالفعل ليست هِيَهْ
وكيف نمشي نحو تطويرها لخدمة التثقيفِ والتَسليَهْ.
الدكتور “س”:
كما تَفَضَّلْتم.. ولكنّ لي ملحوظة، أرغبُ أن تَنجلي
“ثقافة” الواقعِ منها الذي “موروثة” كالكلم المُنزَل
والفكرُ في تجسيدهِ واقعاً يذهب للأعلى وللأسفلِ.
الدكتور “ع”:
إن ملحوظَتكم يا سيدي قد أثارت عندنا بعضَ النقاطْ
الجماهيرُ هي الأصل الذي بينه والفكر عقد ارتباط وواقعيتنا قد عمقت نهجَنا الحر وللعبدِ السياطْ.
الأستاذ “د”:
قد ورثنا عن الجدودِ الحداءَ وقطَعْنا بفضله الصحراءَ
إنما الفنُ عندنا اليوم يشكو قلّةَ الذوقِ وهو يشكو الغباءَ
ورجال الإعلام أكثرهم يرجو اشتهاراً بعلمه وثراءَ.
الدكتورة «ن»:
اسمحوا لي.. باسم النساء جميعاً أصبح اليوم صوتنا مسموعا.
“من نضالاتنا بكل الميادين” بلغنا هذا المكانَ الرفي وغدونا في “البيت” و”الشغل” و”الندوة” نُغني التنفيذَ والتشريعة.
السيد مدير الندوة:
بعد أن أوضحَ الرفاقُ المعاني وأبانوا لكم فنونَ الأغاني ورأيتُم أن الغناءَ كفَنٍّ ليس في غير خدمةِ الأوطان اسمحوا لي أن نرجيءَ البحثَ في أمر الأناشيدِ للقاءِ الثاني المستمعون: إذا كان هذا نتاج الفكرِ وفي مثل هذا يضيعُ العمر فأهلاً بأُمِيّةٍ في الصغر وجهل يلاحقنا في الكبر ويا “.........” انصرفْ وهاتوا لنا اليوم “............” أعتذر عن الحذف من البيت الأخير لأن “المحرر” ذكر اسمين لشخصين إعلاميين معروفين.
لكي لا يُقتَصَر بحثنا على السخرية من غيرنا، ارتأيت الوقوف في محطتين كلبيتين تَعَرَّضْتُ فيهما شخصياً للسخرية، كانت إحداهما بقلم مؤسس الكلب الذي تَهكم على المراسل الجوال - أنا -..... قُبيل رحيل المؤسس بأسابيع، وفي عدد تموز 1972 “هنأني” بمناسبة ترفيعي في مجال مهنتي في ذلك الوقت، فكتب مقالةً مطلعها: أقتطف بعض ما جاء فيها:
لنا صديقٌ مثالي
أتى إلى “الكلب” يوماً في فترةِ الانفصالِ يقولُ شعراً ولكن كأنه ارتجالي يحتاجُ لِلصَّقلِ حيناً رغم القوافي الطّوال حتى يُعبّر عمّا بباله... أو ببالي «...» وليس كالشِّعر يجدي في غمرة الانتقالِ يُصوِّرُ الحالَ رمزاً.. إلى نقيضِ الحالِ وظَلَّ يَسهرُ حتى احتَجَّتْ عليه الليالي وصار للكلبِ “أزكى” مُراسلٍ جَوَّال «...» قد رَفَّعُوه أخيراً لأنه لا مُبالي فإنه لم يُحاربْ... حتى ولا في الخيالِ.
تَعرضتُ في المحطة الثانية إلى سخرية كتبها مراسل الكلب في اللاذقية، الذي كان قد علَّمني في المرحلة الثانوية، وهو الأستاذ أحمد إبراهيم عبد الله.
كتبَ أستاذنا في أواخر ثمانينات القرن الماضي قصيدة مهمة أذكر مطلعها:
أنا قومٌ إذا دُعيتُ أُجيبُ أنا شَخصانِ مُخطيءٌ ومُصيبُ إنْ أكن مُذنباً ففَخري ذنوبي إنني مذنبٌ ولستُ أتوبُ...
بعد مروره على بعض أصدقائه الراحلين والباقين، تذكّر تلميذه القديم بهذه الأبيات:
إن يكنْ عندنا لواءٌ سليبٌ فأخونا غازي اللواءُ السليبُ
يا لواءً تخوضُه كلَّ يومٍ في بلادي معاركٌ وحروبُ
فهو في الجيشِ شاعرٌ موهوبٌ وهو في الشعر قائدٌ موهوبُ...
قرأتُ ذات يوم حكمة مؤداها: يمكنك اعتبار نفسك قد بدأت في دخول سن النُضج، عندما تضحك ضحكَتَكَ الأولى... ساخراً من نفسِكَ...
قلت لنفسي لماذا لا أحاول الدخول، عملاً بهذه التوصية، فكتبتُ “حكمة العدد” لواحد من أعداد الكلب، بعد رحيل رئيس التحرير “ساخراً” من نفسي:
أنا حمارٌ بلا ذَيلٍ ولا رَسَنِ كذا تبيَّنَ لي في آخرِ الزَّمنِ
فإنْ حَمَلْتَ اعترافي محملاً حَسَناً أمسَيْتَ فعلاً كما أصبحتَ... تُعجِبُني...
بعد هذا كله، مازلتُ مقتنعاً بديمومة صواب وجهة نظر مؤسس الكلب في مسرح الشوك...