تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الساخرون والمتجهمون

ملحق ثقافي
5/1/2010م
محمد أبو معتوق

المؤلف:محمد أبو معتوق:-1-

عندما يحاول أحد المشتغلين بالنقد أن يطلق عليّ لقب كاتب ساخر، أصاب بالدهشة والغرابة،‏

وأذهب إلى المكان الذي لا أُُرى فيه... وكمحاولة مني للقضاء على طوفانات الإحباط والكآبة، أبدأ بإطلاق الهتافات واللعنات، وهذه بدورها تتحول وبطريقة لا أفهمها إلى سخريات.‏

هل يمكن للغضب والإحباط أن يكونا الأبويين الشرعيين للسخرية؟!‏

يمكنهما أن يكونا.. إذا تضاءلت الحرية، وتعالى جدار العزلة الرجيم.‏

لذلك ينقسم الناس وتضطرب استجاباتهم، فالسخرية العظيمة سخرية مكتظة بالمفارقة والدلالة ومنفتحة على تأويلات كثيرة ومعان أكثر، لذلك تحتاج السخرية إلى متلقٍٍ عظيم... قادرٍ، وبغمضة عين، أن يخترق حصون السخرية لإعادة ترتيب معانيها ودلالاتها وعناصر المواربة والمخاتلة في نقاط تشكلها وتوترها، ليطلق في وجه السخرية «الجائزة»َ التي تترقبها ألا وهو الضحك الشاسع أو الابتسام العميق.‏

أما عندما يكون المتلقي كائناً ذا سطح واحد وبعد واحد ودلالة واحدة لا يغادرها، فسيصابُ أمام السخرية العظيمة بالبلاهة والعجز، ويقف على تخوم دلالاتها غير قادر سوى على الوجوم والدهشة والغرابة وكأن السخرية تضعه أمام لغز وتدخله في المتاهة والعماء المقيم.‏

وهكذا يضطر الإنسان المسطح ذو البعد الواحد إلى كراهية السخرية والساخرين. والغرق في الصمت والتأمل، في محاولة منه للإيحاء بأنه كائن عاقل، بعيد عن الصغائر والسفاسف التي يطلقها الساخرون، مفعم بالحكمة والفهم العميق.‏

بعض الساخرين يتمتعون ببعد واحد وسطح واحد وهم لا يجيدون إلقاء السخرية ولا يجيدون تأليفها وابتكارها، ورغم ذلك يصرون على التشبه بالساخرين... لذلك يمعنون في السخرية وينتظرون استجابة مباشرة من الآخرين وعندما لا تتحقق الاستجابات... يضحكون من سخرياتهم وحدهم... وحدهم حيث لا مخيلة تعصمهم، كأنما يمارسون نوعاً آخر من البكاء في فضاء العزلة الرجيم حيث لا رحمة ولا تجاوب من الآخرين.‏

-2-‏

في الحياة.. ومنذ بدء التكوين والخلق العظيم.‏

انقسم الناس إلى رجال ونساء، وتمخض عن هذا التقسيم البدئي.. متواليات لا نهائية من التقسيمات فانقسموا إلى سادة وعبيد، وخطاة وقديسين، ونقاد ومبدعين. وكان لكل فرد من المنقسمين تفاحُه وخطاياه، وتفاوتت أحجام الخطايا وحلاوة التفاح تفاوتاً حاداً، وتتابعت متواليات التقسيم حتى كانت الضربة الكبرى والانقسام الكبير، وانقسموا إلى جادين وساخرين. وهذا- لعمري- أعمق وأخطر أشكال التقسيم.‏

فالجادون تحولوا إلى صيارفة ورجال حكم ومتسلطين وقديسين وسجانين، وتحول الساخرون إلى خطاة ومعارضين وسجناء ومتهمين. وبسبب هذا التقسيم تشكل جدار العزلة الرجيم ونهضت المخاوف أعلى وأمنع من سور الصين.‏

ولعل أرسطو واحد من أوائل المشغوفين بالتقسيم، حيث قسم الإبداع والشعر إلى قسمين رئيسيين هما الملهاة والمأساة، أو الكوميديا والتراجيديا، وتم اشتقاق اللهو من الملهاة والسخريات، وطالبت الأنظمةُ والعقائدُ المستبدة بالقصاص من اللاهين، وتم تمجيد رجال المآسي، ورُفِّعوا إلى مرتبة الأبطال والملوك الخالدين، وهذا- لعمركم- هو الضلال المبين.. فعندما تتضاءل السخرية تتماوت الحرية وتذوي مثل شيء باهر وحزين.‏

لذلك ينبغي أن نبني مجد السخرية ونرفعه إلى أعلى عليين حتى تنهض الحرية وتكون.. فالويل لمن لا يستجيب للسخرية ولا يقبض على لحظة نشوتها كما يقبض على كنز ثمين. والويل للأمم التي لا تمجد السخرية والساخرين، فهم وحدهم الذين يجعلون ملكوت العالم مكاناً طافحاً بالبشر والحرية والسعادة إلى أبد الآبدين.‏

فالمكان المتحضر‏

والزمان المتحضر‏

يتهدمان بالتجهم‏

وينهضان بالضحك الشاسع النبيل.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية