تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أوتار... عندما رأيت موتي.. ولم أمت

آراء
الأربعاء 6-1-2010
ياسين رفاعية

لم أنس ذلك اليوم الذي واجهت فيه الموت وجها لوجه والذي اعطاني درساً بأن الحياة مهما كانت ، أو كما عبّر عنها أحد أصدقائي أنها كالسفرجل كل عضة بغصة ، ومع ذلك نأكل حبة السفرجل حتى نهايتها.

واجهت الموت في رحلة الى لندن وكان يجلس الى جانبي شقيق زوجتي عندما لاحظت فجأة أن ثمة شيئاً غريباً يحدث في الطائرة، المضيفات يتحركن بقلق، ولم نتجرأ في البداية أن نسألهن ، ولكن أدركت أن خطراً ينتظرنا ، كان من المفترض أن تهبط الطائرة في لندن بعد أربع ساعات من مغادرتنا بيروت, ولكن هذه الساعات انتهت ومازلنا في الجو، لم يكن شقيق زوجتي منتبهاً، كان يقرأ في مجلة أجنبية عن حكاية الصحون الطائرة، وكان دائما يحدثني عنها مصدقاً انها جاءت من كوكب آخر, أحاول اقناعه انها ليست كذلك ، لابد انها سلاح سري لأميركا أو الاتحاد السوفييتي أو الصين، يجر ون عليها التجارب لكن شقيق زوجتي مغرم بحضور افلام الفضاء، وأنا مازلت أتذكر في فتوتي أفلام فلاش غوردن رجل الفضاء الأول في السينما الأميركية ، كنت مأخوذاً بتلك الأفلام لايفوتني منها فيلم واحد، كذلك سلسلة أفلام (شازام) المشابهة لفلاش غوردن الذي تكررت شخصيته في السينما الأميركية، التي تدخل السم الدسم في سلسلة أفلام«سوبرمان» الحديثة الشهيرة ، وضحكت كثيراً ذات يوم عندما هبط سوبرمان « ابن الممثل الشهير مارلون براندو - كما في الفيلم والذي تقاضى عن كل دقيقة ظهور على الشاشة مليون دولار«طالبا من ابنه سوبرمان أن يهبط الى الأرض لتحقيق العدالة السماوية !! فسأل أحد الأطفال سوبرمان لماذا اختار أن يهبط في امريكا، فأجابه سوبرمان : «لأنني معجب بالديمقراطية الأميركية » ضحكت من غباء الأميركيين ، ففي أفلام من هذا النوع يريدون تحقيق الديمقراطية والعدالة على طريقتهم فيكيلون بمكيالين . لم أرد إزعاج شقيق زوجتي في البداية ، لكن عندما تأكدت أن خطراً ماتخفيه عنا المضيفات ، وان الطائرة طال تحليقها فوق مطار لندن «هيثرو» تهبط ثم تصعد ، أدركت أننا في خطر ظننت في البداية أننا في طائرة مخطوفة ، فزال بعض توتري ، فربما هناك عربي أو اثنان اختطفا الطائرة ويريدان تحويل سيرها ، خفّ بعض توتري لأن الخاطفين إن كانوا عرباً أو من شعب مضطهد آخر ،فسيتلطفان بنا أنا وشقيق زوجتي ،لأننا نحن العرب أول من ابتدع اختطاف الطائرات، وخاطفو الطائرات دائما من شعوب صديقة ، فأي شيء يحدث في الطائرة لن يصيبنا مكروه فيها، إلااذا سقطت ، لكن بدا لي فيما بعد أن الطائرة ليست مخطوفة ، فلم يظهر أي مسلح فيها ولابد أن شيئاً ماحصل لمحركاتها فما عادت تستطيع الهبوط. أخيراً ، لكزت شقيق زوجتي بيدي واسمه«أمير». التفت نحوي مستفسراً ، قلت له بهدوء الطائرة لاتستطيع الهبوط ،إنها تحوم في السماء منذ ساعة ولم تهبط .. للوهلة الأولى لم يهتم . قال لي: ربما هناك عجقة في السماء.. إن مطار لندن يستقبل كل يوم مئات الطائرات «ترافك» ياصهري«ترافك» لاتخف.. أردت فعلاً أن أصدقه ، ثم انتبهنا أن كابتن الطائرة جاء الى منتصف الممر الذي يفصل بين المقاعد ، رفع الموكيت في جانب منه ،ثم رفع غطاء من الخشب ونزل منه الى الطبقة السفلى من الطائرة في هذه اللحظة لم أكن وحدي الذي انتبهت ، بل كل الركاب الذين عرفوا للتو أن ثمة خللاً في الطائرة ، فارتسم على وجوههم القلق الشديد، عندئذ سألت احدى» المضيفات ، بدت هي الأخرى قلقة وخائفة ، وقبل أن تجيب ، حاولت أن ترسم ابتسامة على شفتيها فبدت مصطنعة ، ابتسامة باهتة صفراء ،لم تنظر في عيوننا، ظلت مطرقة الى الأسفل ، ثم همست : لاشيء لاشيء كل ماهنالك أن العجلات لم تنزل.. هكذا ببساطة لم تنزل العجلات .. ماذا سيكون مصيرنا اذاً ؟ وصاح أمير تقولين العجلات لم تنزل؟! يعني أننا سنهبط بدون عجلات ، ماذا سيحصل عندما تصطدم الطائرة بالأرض ؟ لم نكن وحدنا الذين رحنا نلاحق المضيفات بالأسئلة ، بات الركاب جميعهم قلقين، دبت الفوضى في الطائرة وانتشر الخوف، إنه الموت ، صاح الراكب الذي أمامنا: ياإلهي .. إننا سنموت ، كيف يمكن لطائرة بهذا الحجم أن تهبط بدون عجلات ؟ وحبكت النكتة مع أمير فهو دائماً كان يسخر من الاقدار التي قادته الى مآزق لاحصر لها ، يروي لنا حكايات لاتنتهي عن مشاكل وملاحقات ، وهروب من حدود دولة الى دولة أخرى، فهو منذ تهرب من خدمة العلم في الوطن شرد من بلد الى بلد، يتسلل من دون تأشيرات دخول، ويهبط في مطارات تعيده من حيث أتى،الى أن بلعبة من لعبه، دخل بريطانيا وتزوج من حسناء اسكوتلندية ثم حصل على الجنسية وأصبح من رعايا المملكة المتحدة والملكة اليزابيت ،سأل المضيفة ساخراً :كم ستدفعون تعويضاً عن موتنا؟‏

حاولت المضيفة أن تكون على مستوى السؤال فقالت :لايقل عن مئة ألف جنيه استرليني لكل راكب ،فضحك وقال لي هـ: يعني ستحصل زوجتي على تأمينين تأمين على الحياة وتأمين ركوب الطائرة، نيالها ستنعم بأموال موتي مع رجل آخر ،،أنا ارتبكت .. سنموت هذا باختصار ، أغمضت عيني ثم فتحتها .. سألت المضيفة : هل استطاع الكابتن إنزال العجلات؟! قالت ووجهها مصفر: أنزلها بيديه.. ولكن ليس من المؤكد أن تصمد، التفت نحو أمير : سنموت ياأمير ، هو الآخر غامت عيناه وامتقع لونه ، وجهه صار وجه ميت، لم يجبني، أخرج سبحة من جيبه وراح يطقطق بحباتها ويردد بصوت مرتجف: الله.. الله..الله.. كنت خائفاً أكثر منه حتى في اللجوء الى الله.. ارتبكت . فلم أعد أعرف ان كنت أطلب من الله أن يحمينا ، أم كنت اضغط على نفسي لئلا ابول في ثيابي .‏

عندما صاح الكابتن أن نربط الأحزمة ونشدها جيداً ، امتثلت للأمر بسرعة ، وفيما كانت المضيفات يوزعن علينا وسادات صغيرة طالبات منا أن نسند رؤوسنا عليها لحظة الهبوط ، أدركت أننا ميتون لامحالة.. لاأدري لماذا تلك اللحظات حضرني وجه أمي ، وجهها الأليف الحنون ، كأنها جاءت من قبرها لتساندني في هذه اللحظات المرعبة «لاتخف يابني..لاتخف. الجأ الى الله ، هو القادر أن يمنحك الحياة».‏

لم أتقيد بتعاليم المضيفات اللواتي اختفين الآن تماماً ، كانت الطائرة تهبط ،فلمحت من نافذتنا عشرات سيارات الإطفاء والاسعاف تتبع الطائرة وقد اقتربت من المدرج.. وانتبهت أيضاً أن سيارات أخرى كانت تفرش الأرض من أجهزة فيها شيء يشبه رغوة الصابون فوق المدرج . الطائرة تهبط وكان قلبي يهبط معها، استغرق أمير في تسبيحاته ، كان قد أسند رأسه الى الوسادة ، لكن صوته المرتجف راح يردد بصوت عال: الله ... الله.. الله.. كان خائفاً وكنت خائفاً مثله كنت أظن أن مواجهة الموت لن تخيفني .. الآن ادركت أنني أكثر من جبان وأنني أحب الحياة وأحب أن أعيش ، غابت عن بالي كل الوجوه، كل من عرفت ، حتى شقيق زوجتي الذي الى جانبي نسيته تماماً ، كنت أفكر كيف سأكون من الناجين ، لم يعد يهمني أحد من الركاب ،باتت حياتي وحدي هي التي تهمني ؟ شعرت أن قلبي يكاد يخرج من صدري وتصورت عندما ستنفجر الطائرة كيف سنتناثر أشلاء، ونختلط بعضنا نحن الركاب ببعض فلا يعرف منا أحد من ذاك.‏

الطائرة تهبط ، إنها تصرخ مثلي ، أصوات محركاتها علوّ هديرها ، إنها ،مثلنا، ستموت، بدت لي الآن هذا المخلوق الوحش الذي سيواجه مصيره وينفجر مثلنا سنموت ، لم أتجرأ أن أفتح عيني الآن.. لم اتجرأ أن أرفع رأسي ، أمير هو الآخر لاصوت منه كأنه مات قبل ان يموت ، سكون داخل الطائرة جعل هديرها يصم الأسماع . هدير غريب رهيب . كأنه ألف دبابة تنطلق معاً، تزحف فوق صدورنا... الطائرة تهبط.. لم أعد أعرف هل وصلنا الى المدرج أم لا.... استسلمت ..استسلمت تماماً .. سأموت اذاً .. يالها من ميتة بشعة .. كم هي جميلة الحياة ، بعذاباتها، بهمومها.. بتعاساتها، بفقرها ، بجوعها .‏

لامست الطائرة المدرج ، انزلقت كأنها لعبة أطفال ، كانت تلامس المدرج ثم ترتفع.. كنت واعياً أكثر من الجميع، أريد أن أرى موتي ... أراه بتفاصيله ، شعت ذاكرتي ، نهضت أحاسيسي الى أعلى مايمكن لها، ليكن الموت ، لكنني أريد أن اراه .. فتحت عيني جيداً،،شعرت أن قائد الطائرة يحاول المراوغة ، ثم بهدوء أخذت الطائرة تلامس الأرض المفروشة بتلك المادة المطاطية اللزجة راحت تدور حول نفسها دوراناً هائلاً .. لم تنفجر ، ثم شعرت أنها تغوص في الوحل اللزج ، ثم توقفت تماماً ، صاح صوت بنا فكوا الأحزمة واهرعوا بانتظام نحو الأبواب المفتوحة ، فتحت عيني جيداً .. لكزت أمير : قم .. قم .. لم يستطع الوقوف‏

أما أنا فقد انتبهت أن ماء دافئاً ينساب من بين قدمي..‏

كان الركاب يتدافشون بالأكتاف ،كل يريد الوصول الى الأبواب المفتوحة قبل غيره، لم أفعل أنا مثلهم ،ولم أدع أمير يتحرك قبل أن ينزل جميع الركاب، فالطائرة توقفت ، محركاتها توقفت..هديرها السابق لم يعد موجوداً .. اذاً.. إننا وصلنا بسلام فلمَ العجلة .. ورأيت في هذه اللحظات وجه أمي ، جاءت اليّ ككتلة من النور ، مسحت جبيني المعرق بيدها المباركة ثم ربتت على كتفي وهي تردد حماك الله يابني ، وعندما اقتربنا من أحد الأبواب المفتوحة إذ بالطائرة في حقل مجاور غاطسة في الوحل والماء ، كان يوماً ممطراً ذلك اليوم، وكأن الله أراد أن يمتحننا في مواجهة الموت وهو يعد لنا طوق النجاة مطراً غزيراً ساعد على عدم انفجار الطائرة .. انزلقنا على الدرج المطاطي المنفوخ ، وكانت أيدي المسعفين تتلقفنا الواحد بعد الآخر وتسرع بنا الى سيارات الاسعاف خصوصاً النساء اللواتي بعضهن أغمي عليهن ، كنت ارتجف من رأسي الى أخمص قدمي ،بينما أمير يطقطق سبحته بعصبية فانفرطت بين يديه ،وتساقطت حباتها في كل مكان ، لم يهتم بلمها ،نظر نحوي محاولا ان يخفي ارتباكه .. حاول أن يبتسم.. ثم قال مازحاً : راح علينا التأمين ياصهري، ثم ضحكنا معاً .‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية