تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


نيتشه ومهمة الفلسفة: وهم التجاوز أم تجاوز الوهم؟!

كتب
الأربعاء 6-1-2010
أحمد علي هلال

كسؤال لا يستنفد، هكذا يبدو نيتشه بكثافة حضوره في الدرس الفلسفي المعاصر، ولعل مرد ذلك الحضور، هو موقفه «الجينالوجي» كما موقفه الذي يسعى لقلب تراتب القيم،

تمهيداً لتأويل جمالي للحياة، لطالما اقترن مفهوم العدمية به، ولاسيما في مستوياتها المختلفة، ومنها «العدمية الضمنية» وما تنفيه- هذه العدمية- هو ما يطلق عليه نيتشه الحياة.‏

فهل تشكل مساهمة نيتشه في تاريخ الفلسفة تحولاً حقيقياً في تأويل تاريخ الفلسفة وتاريخ الثقافة الأوروبية برمتها؟!‏

وذلك السؤال كان هاجس من تتبعوا فكر نيتشه ونقده العنيف، ومحاولته استرجاع حس تاريخ مفقود، بانفتاح دال على «عدمية ثرية» ولاسيما في نزوعها الانساني على الرغم من المفارقات التاريخية والمعرفية التي وسمت فكر «صاحب الجينالوجيا».‏

كثيرة هي المقاربات النقدية التي أراد أصحابها الوقوف ثيمات الخطاب النيتشوي، في دلاله ومعنى فهمه للتراتب أو التفاضل كإشكالية تتموضع في أنساق فكرية ومعرفية منها القيم والأخلاق والفن والدين والميتافيزيقيا.‏

ثمة مساهمة جادة ورصينة للباحث الجزائري د. عبد الرزاق بلعقروز في كتابه نيتشه ومهمة الفلسفة- قلب تراتب القيم والتأويل الجمالي للحياة..تتميز بانفتاحها على نظرية التراتب وتكامل منهجها التحليلي والمقارن، بمعنى ثمة منهج تكاملي ضبط تلك الدراسة المشبعة بالطريقة الاستقرائية، ليجلو وليساءل نظرية التراتب النيتشوية في سياقها ومظانها، بمعنى الاختلاف في الأصل، بمعنى التفاضل، بمعنى الترويض والاصطفاء، بصرف النظر عن الصعوبات التي واجهت البحث أو قلة الدراسات في ذلك المنحى، أو اقتصار بعضها على عنصر محدد من عناصر الثقافة،... جاء الكتاب بفصول ثلاثة، تتوزع على خارطة اشتغال معرفي يساءل نيتشه في نظريته على مستوى المصطلح والمفهوم، ومن ثم من هيمنة الثقافة الأفلاطونية إلى التأويل الجمالي للوجود، وجينالوجيا التراتب الأخلاقي، أو من الانسان إلى الانسان الأسمى. من أجل ايجاد الخيوط الدالة التي تنتبه إلى حقل التاريخ، لتؤول اشكالية التراتب، إذ تنطوي مقاربة الباحث- بلعقروز- فضلاً عن منهجيتها، بسعيها للوقوف على أرضية الفكر النيتشوي وصولاً لمساءلته معرفياً، مضيفاً إلى الدرس الفلسفي العربي طريقة لفهم التجاوز، التجاوز كدالة في خطاب نيتشه وفلسفته ولغته، بتنوع مداخله لتأويل فلسفة نيتشه بالمعنى الكلي، فضلاً عن تتبعه المحاور الفلسفية الكبرى التي هيأت لينتشه الذهاب عبر حقل معرفي ليستولد أشكال قراءته للتاريخ الأوروبي وللثقافة الأوروبية في صيرورة جدله ومن ثم اختلافه.. وانشغاله بإشكالية التراتب كنسق يقسم العالم إلى تعارضات مختلفة »أدنى، أعلى، شرير، طيب، قبيح، جميل« إلخ.. وهذه تحيل إلى معان وتدل عليها وتدل على معنى هو عبارة عن قناع يغلف تأويلات مستبطنة وسابقة. هكذا يبدو سجال النص النيتشوي مع القيم السياسية لعصره (كالديمقراطية، والمساواة والعدالة، والتسامح) ليعلن أن قضية التراتيبية هي قضيته الرئيسة ولكن ما هو موقع التراتب في الفكر الفلسفي؟! ذلك ما نجده في استخلاص الباحث، أي التراتب انطلاقاً من بعض النماذج الفلسفية، كأنه يحكم تاريخ الفلسفة، أو أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ قلب التصورات وتفكيك القناعات وذلك لتصحيح التراتبات الزائفة بمعنى اضافي أي إن التراتب (توزيع الأفراد وفق مختلف المستويات على قدر أهميتهم يوزعون من الأعلى مستوى إلى الأدنى اجتماعياً وسياسياً) يمارس حضوره في شكل نظرية فلسفية »فمعاناة المسافة ومراتب الناس قد احتل الصدارة في نظرية نيتشه الثقافية، التي تستدخل معها عنصري المعنى والقيمة، فما قيمة أخلاق ما، أو فن ما، كماهية للسؤال النيتشوي الأساسي ونتعرف على منظوره الخاص مما قصده بالنوايا الأخلاقية أو اللاأخلاقية بمعنى أصل أفكارنا عن الخير والشر ولاسيما في تقابلات المرايا والألوان، ما سر استخدام مجازها، هل للدلالة على الأقنعة التي تغلف وجوه القيم أم ثقوب نطل من خلالها على حضور الأشياء، نيتشه كان يعني ذلك كله كما ذهب تحليل الباحث بلعقروز، ليقف على حقيقة أنه لا وجود لأصل نقي وصاف انما الأصل داخل ذاته ينطوي على التعدد وليس التطابق والتشذر،، وليقف أيضاً على مفهوم نيتشه »الضبابي« الذي لا يتحدد في صيغة نهائية ودلالة الفئة التي يصطفيها نيتشه، المتفوقة والقوية والغنية ليحقق معادلته المفقودة: الارادة تساوي الابداع في وجود أرضي جميل سينادي بالعيش معه كهدف، ما يؤدي إلى اعادة الاعتبار لقيمة العالم وتأسيس الثقافة الأوروبية على أسس بديلة منها التأويل الجديد الذي يمجد الأرض وتكليف الفن بوظيفة تحرير الانسان من ثقل التراتب النافي للحياة والمقزم لقيمتها على الأرض، مؤسساً لعلم جمال الحنين أو التوق للماضي، يذهب نيتشه إلى أن الشعر محفز لحياة وأكثر من ذلك ليضع قسمة نهائية بين التجربة العقلية والتجربة الجمالية »بأفلاطونيته المقلوبة« لكنه في مناهضته »لعمال الفلسفة« أو »حارسي القيم« يقلب السؤال الأخلاقي موظفاً أشكال التحليل السيكولوجي والفني لتكريس عقيدة التراتب بين البشر مستأنفاً تصورات آرثر دي غوبينو في كتابه تفاوت الأجناس البشرية وإن ما يصطلح عليه الباحث بتفكك النيتشوية على غرار تفكك الهيجلية، سيبدو كنتيجة حاسمة لاسنتفاد فكرة المفاضلة بين الثقافات والحضارات، وفكرة الانسان الأسمى لكنها في شرطها التاريخي أنتجت تلك الانعطافات الجذرية في تاريخ الفلسفة ليؤسس عليها ما يعرف اليوم بتيار ما بعد الحداثة ولنستنتج مع الباحث نزوع الثقافة الغربية إلى التشاؤم، بل نزوع الفلسفة بأنظمتها المعرفية إلى الشك والقلق، ربما أصبحت بدورها (ضحية) كما نيتشه بتأويل الباحث ضحية عصره بالمعنى المعرفي، دون تجاوز أن نيتشه انحاز للازادة والفكر من أجل تحريرهما وليختزل الوجود بالابداع والارادة بالبناء ويصبح العالم نصاً يفيض بالمعنى فهل وقع نيتشه- الفليسوف- في حبال الميتافيزيقيا وتحولت لغته إلى قوة مارست ضغطها عليه، سؤال لا يبتدئ من نيتشه ولا ينتهي عند الفلسفات المعاصرة، في سعيها لمضاعفة التأويل الجمالي للحياة.. تعويضاً عن مزالق اللغة وضلالاً وجودياً مفترضاً‏

الكتاب: نيتشه ومهمة الفلسفة- قلب تراتب القيم والتأويل الجمالي للحياة - المؤلف: أ. عبد الرزاق بلعقروز - الناشر: منشورات الاختلاف- الدار العربية للعلوم- مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم. - الطبعة الأولى: 2010‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية