على ضوء سبر حياة هذا الرجل، يفاجأ بكم التشابه، ومع هذا لن يفوت المرء أن ينتبه إلى أن ويلز غالباً ما استقى مواضيعه من أعمال أدبية ومسرحية ألفها آخرون، ولكن هل تراه حقاً كان أميناً في نقلها؟
على الإطلاق.. ذلك أن أورسون ويلز عرف دائماً كيف يستحوذ على تلك الأعمال وعلى شخصياتها كي يحقق ما يمكننا أن نعتبره اليوم الأكثر ذاتية في تاريخ الفن، ما يتيح لنا أن نضع ويلز في هذا الإطار جنباً إلى جنب مع رامبرانت وفان غوغ وماكس بيكمان وهم من أقطاب الرسم الذين كانت صورهم الذاتية من أبرز ما رسموا.
والحديث عن إيليا كازان كسينمائي يبدأ عادة مع 1945، حين حقق أول فيلم طويل له وهو «شجرة تنمو في بروكلين»، يتحدث فيه عن مصير عائلة مهاجرة من إيرلندا إلى الولايات المتحدة الأمريكية في مسار يشبه إلى حد ما مساره ومسار عائلته. ولكن منذ «رعب في الشارع» 1950، سوف يتبدل الأمر نهائياً وسينظر إلى كازان بوصفه واحداً من كبار هوليود، ففي الفيلم ابتعاد ما عن الهمّ الاجتماعي ولكن فيه بالتأكيد لحظات سينمائية رائعة. ورغم أنّ كل القضايا التي عبّر عنها في أفلامه كانت قضايا تمسّه شخصياً كمهاجر ومناضل سياسي ومثقف ألزم نفسه بالقضايا الاجتماعية. والحقيقة أن معظم أفلامه سوف تكون تعبيراً عن موقفه الداخلي ممّا حدث أمام «محاكم التفتيش».
ولعل الجديد في هذه الأفلام هو تمكنه فيها من إخراس صوت تردده وتساؤلاته القلقة القديمة ومن حول الحياة الاجتماعية فيها، من حول ذلك الحلم الأميركي الذي يمكنه في لحظة أن ينقلب كابوساً، وحين سُئِل كازان عن نفسه قال: «أنا أنتمي إلى ما يمكن اعتباره نزعة جوهرية، أحاول أن أتجاوز الواقع ولا يهمني أن أصور الحياة كما هي».
إن القيمة القصوى لأفلام كوروساوا، تنبع من قدرته على إحداث تفاعل خلاق بين مختلف هذه الرؤى، فهو كان قادراً على الربط بين الرؤى الاجتماعية والنفسية والأخلاقية في عملية ترابط وجذب لا تنتهي. ومن هنا تأتي صعوبة القيام بأي فرز مطلق في سينما كوروساوا، لأن هذا السينمائي الكبير تبدى على الدوام قادراً على ربط التأمل الاجتماعي بالتأمل التاريخي بالتشويق البوليسي بالنظرة الأخلاقية وصولاً إلى حسّ المغامرة الصرف. وضمن هذا الإطار يكون في إمكاننا التساؤل حول الأفلام الكبيرة التي لجأ فيها كوروساوا إلى استعارة أعمال أدبية وفنية معروفة، ومتابعة دقيقة لأعماله سوف تكشف لنا عن أنه إنما استعار شكسبير أو دوستويفسكي أو غوركي، فقط ليجعل من كلّ منهم ذريعة تمكنه من تحقيق أعماله الخاصة، أو لنقل بصورة أخرى إنها اليابان المعاصرة التي عبّر عن سقوط بنيتها الإقطاعية، يصبح فجأة مستقبلها كلّه مكشوفاً أمامها.
كان أندريه تاركوفسكي يعرف تماماً كيف يستحوذ على الموضوع ويعيد تكوينه نافخاً فيه روحه الخاصة، بشكل يجعل الشخصيات الأساسية أجزاء من شخصيته، وكأنه جزء من كونشرتو متواصل تتفاعل فيه الطبيعة والأحداث والتاريخ والشخصيات الأخرى مع العزف الفردي الذي تقدمه آلة موسيقية هي الشخصية المحورية، إنه قصيدة شعر يضع فيها أفكاره ورؤاه، وقد ظل متماسكاً بمبادئه حتى اللحظة الأخيرة، حول شاعرية السينما، وحول ارتباطه بالطبيعة، حول بحثه عن الوجه الآخر للمرأة، عن روسيا الحقيقية، وروسيا التي أحبها ولم يحبّ غيرها في الوجود.
مع فرانسوا تروفو، يصح تماماً القول إنّ من يحبّ السينما يحبّ الحياة.. ومن يحبّ الحياة يحبّ السينما، ومن هنا لا يعود غريباً ذلك الاندماج بين السينما والحياة لدى هذا الفنان الكبير. إنّ أفلامه جميعها، تبدو صورة لسيرة فرانسوا تروفو الذاتية، إنه يعتبر أن الأدب والسينما صديقان لا يفترقان.
إذا كان فرانسيس فورد كوبولا قد عجز عن تحقيق ما يوازي نجاحاته الماضية، فإنّه تمكن في أفلامه «الصغيرة» الأخيرة من أن يستعيد ألق أحلامه الأولى. عرف كيف يثوّر هوليوود وينتقل بها من البلادة والارتباك، إلى مكان ينتج أشكالاً فنية جديدة ورؤى سينمائية مواكبة للعصر، وربما أفكاراً راديكالية، لعلها وجدت ذروة التعبير عنها في نهوضها لمقارعة حرب أمريكا في فيتنام، يومها صارت هوليوود شيئاً آخر.
لن يبدو برناردو برتولوتشي سوى مخرج حميم وخاص جداً يطرح أسئلته الخاصة على السينما والعالم، إلى درجة تبدو معها أفلامه كلها أشبه بسيرة ذاتية متواصلة، ولا بد أن نقول إن «الموت» كان تجربة برتولوتشي الحقيقية الأولى، إنّ خلاصه من ماضيه الطبقي لن يكون إلا بقتل الأب/ الأستاذ/ الطبقة، إنه حقق ثلاثة من أضخم أفلامه: واحد عن الصين «الإمبراطور الأخير»، والثاني عن الصحراء المغربية «السماء الواقية»، والثالث عن التيبت «بودا الصغير»، لكنه في الأفلام الثلاثة معاً، ظل أميناً لاهتمامه بالمصير الفردي وللعبة الموت والزوال، لأسئلة القلق الوجودي.
وراينر فرنر فاسبندر في مجمل أفلامه لم يبتعد عن همومه الأولى ولا عن اهتمامه بالمرأة، وهو، إذا كان قد أظهر شيئاً من الالتباس في «ليلي مارلين» لم يكن هذا إلا لأن الموضوع والشخصيات فرضت ذلك التوجه عليه، هو الذي لم يكن يريد من تلك «البورتريهات» النسائية الثلاثة أن تكون مجرد درس في التاريخ، لقد التقط سرّ السينما وسرّ المرأة وسر الحياة باكراً.
أفلا يمكننا أن نقول إن موقف لارس فون تراير الذي قد يكون مختفياً في ثنايا «عجقة» فيلمه «عدوّ المسيح» غير المجدية هو موقف ضد تفاهة الجنس البشري عموماً، وليس ضد المرأة أو الرجل بشكل خاص؟ ومهما يكن من الأمر يبقى أن هذا الفيلم سيثير السجالات أكثر، كدأب فون تراير دائماً، على آفاق تحليل وإدراك جديدة، للعلاقة بين الإنسان والدين، الإنسان والأسطورة، والإنسان والحزن، تماماً مثل وجه «جيم هارموش» حتى وإن كان ثمة مراجع أدبية وفكرية وموسيقية ومسرحية في أفلامه، إلى المراجع السينمائية هو أولاً وأخيراً: ابن السينما.
إنّ كل فيلم راح يحققه فرانكو ألمودوفار صار يعتبر حدثاً، سواء أعرض في مهرجان أم في الصالات في شكل مباشر «تكلّم معه»، «التربية السيئة»، ويرتبط الفيلمان بسيرته الذاتية، ثم فيلم «العودة» الذي قدم فيه أقسى مرافعة ضد الرجال ولمصلحة المرأة، وكأنه هنا أراد أن يعوض عن حنان كان أظهره تجاه الرجل، العاشق تحديداً.
هؤلاء هم المخرجون ويمكن أن نتساءل دائماً: ماذا يوجد وراء الشاشة؟
والمؤلف إبراهيم العريس باحث في التاريخ الثقافي وصحافي وناقد سينمائي ومترجم، ولد في بيروت 1946، درس الإخراج السينمائي في روما والسيناريو والنقد في لندن. يعمل بالصحافة منذ عام 1970. يرأس حالياً القسم السينمائي في «الحياة» كما يكتب فيها زاوية يومية حول التراث الإنساني وتاريخ الثقافة العالمية. ترجم نحو أربعين كتاباً، في السينما والفلسفة والاقتصاد والنقد والتاريخ، من أهم مؤلفاته: رحلة في السينما العربية، مارتن سكورسيزي: سيرة سينمائية. الحلم المعلّق: سينما مارون بغدادي، رحلة في السينما العربية، الصورة والواقع، السينما والتاريخ والعالم، وزارة الثقافة – دمشق 2008.
ما وراء الشاشة
إبراهيم العريس
الهيئة العامة السورية للكتاب