لها دلالة أخلاقية بقدر ما تعني أن هؤلاء الألمان يتقنون الكلام بالفرنسية. كان عام بلا أمل. كلا – هكذا يقول جان بروييه – كان أسوأ من ذلك، فقد ساد شعور بأن ليس هناك مستقبل، فدول المحور قد انتصرت.
لكن المقاومة الفرنسية انتظمت، وشأن العديد من الفرنسيين، وجد جان بروييه في ربيع 1942 نسخة من رواية «صمت البحر» في صندوق بريده. طبعت هذه الرواية في شهر شباط من العام نفسه.. وقد سر بروييه أن يجد هذا الطرد فذلك يعني أن هذه الرواية قد وزعت وسروره هذا أبعد من كونه أديباً. فتحت الاسم المستعار «ميركور» كتب جان بروييه أول أعماله.
والآن وقد مضى أربعون عاماً، أخذت الرواية مكانتها إلى جانب أخواتها في الأدب الفرنسي الكلاسيكي. وهذه الرواية دعوة إلى الإخاء البشري كما فسرها البعض في حين أنها- في الواقع- تحذير ضد الألمان «الطيبين!» أن «صمت البحر» حكاية متوازنة، على نحو مدهش، لضابط ألماني مثالي يجد مأوى عند رجل عجوز فرنسي وابنة أخيه، ويسعى الضابط إلى أن يجعل الاثنين يشاطرانه أمله بعقد زواج بين ألمانيا وفرنسا، ولكن كل ما يفوز به الضابط منهما هو الصمت، رمز المقاومة. ويعي الضابط الألماني فيما بعد بأن ألمانيا لا تعتزم الزواج من فرنسا وإنما «اغتصابها. وهكذا يغادر بعد أحساسه بالإحباط وتحرره من الوهم، إلى الجبهة متفوهاً بكلمة وداعاً تهمس بها ابنة الأخ. والكاتب فيركور– وقد أخذ هذا الاسم من مجموعة مقاومة كان يطلق على نفسها هذا الاسم – يعرف رنين الصمت بكل أشكاله وألوانه إذ أنه ألقى في عام 1945 محاضرة حول صمت الألمان خلال الحقبة الهتلرية.
أما عن روايته «صمت البحر» فيقول بأنها ليست سيرة ذاتية. مؤكداً: «أن القصة كلها من اختراعي، والشيء الوحيد الذي لم أخترعه هو صمت الفتاة، لأن الصمت قصتي». وجد فيركور منزله، الذي يبعد خمسين كيلومتراً عن باريس، وقد احتله ضابط ألماني كان يجيد الفرنسية. وعنه يتحدث بروييه قائلاً: «عندما شاهدته في الشارع ألقى علي التحية. لكنني وجدت نفسي غير مكترث به. وتكررت الحال مرة ثانية. وبعد ذلك أصبح من المستحيل أن أحييه حتى لو أردت أنا ذلك».
في رواية «صمت البحر» استحضر بروييه – فيركور رجلاً عجوزاً «لا أستطيع عامداً أن أؤذي إنساناً دون معاناة، حتى لو كان عدوي». وهذا ما حصل لفيركور مع الضابط الألماني. فالأذى ليس متعمداً بل أصبح ضرورياً.
للرواية هدف معلوم وهو تحذير الكتاب الفرنسيين من مخاطر إظهار العطف على الألمان النازيين. والرواية بعد هذا تحمل نداء للمثقفين الفرنسيين للمقاومة وليس الانخداع بالألمان الطيبين.
كان لفيركور إيمان ضعيف في نجاح روايته. فبعد صدورها أرسل معظم النسخ إلى المناطق غير المحتلة. يحدوه أمل بأن الوقت مبكر جداً لإرسالها إلى باريس، وبالطبع، كان هناك من ذم الرواية. فقد شجبها الكاتب إيليا أهرنبرغ باعتبارها عملاً تحريضياً كتبه رجل نازي مساندة للحملة الدعائية الخبيثة للغستابو.
كان فيركور قبل الحرب رسام تخطيطات. وكانت رسومه الهجائية تظهر في الصحف والمجلات. وإبان الحرب رفض أن ينشر شيئاً، فاعتقد أصدقاؤه أنه قد فضل العيش في الريف. أن شخصية فيركور، كما قال لويس أراغون فيما بعد. كانت من الأسرار الدفينة للحرب، كان فيركور عضو مقاومة مبكر. وبمعونة صديقه جان دي ليسكور أنشا داراً للنشر أصدرت أعمالاً لكتاب مثل مورياك، وأراغون، كما أنها أصدرت رواية «صمت البحر» أيضاً.
طبعت من الرواية في بداية الأمر ثلاثمائة وخمسون نسخة. بيد أنها عرفت في أنحاء العالم، حتى أن مجلة «لايف» قامت بنشرها.
في شبابه حصل فيركور على شهادة في الهندسة الكهربائية. لكنه لم يشتغل في حقل اختصاصه أبداً. لقد أراد أن يصبح عالماً لإيمانه بأن العلم يحل جميع المشاكل، فكتب أربعة وعشرين كتاباً عن موضوعات مختلفة، بدءاً من الفلسفة والانعكاسات العلمة وانتهاءً بكتب الطبخ، والرواية وترجمة «هاملت».
ويعكف فيركور الآن على كتابة ثلاثية تدور حول التاريخ الفرنسي الممتد بين عامي 1862-1962.
يرى بعض النقاد أن «صمت البحر» كتبت على يد فنان، وأنها تمتلك خاصية تشكيلية. وعنها يقول فيركور نفسه: «لم أكتبها كما كنت أنوي، أظن أن الموضوع فرض علي الأسلوب».
والشتاء القادم لا يؤشر على مرور أربعين عاماً على صدور «صمت البحر» فقط، بل يؤشر أيضاً على مرور ثمانين عاماً على ولادة فيركور. حصل فيركور على وسام المقاومة الذي لم يعلقه على صدره أبداً، وهو، كعضو في المقاومة، إنسان يمتلك ذكريات لا أحد يستطيع أن يشاطره إياه.
وحينما يسأل فيركور عن سبب عدم دخوله الأكاديمية الفرنسية بعد النجاح الهائل الذي حققه بروايته «صمت البحر» وتاريخه في حركة على وسام المقاومة الفرنسية يقول: «لا يمكنني ترشيح نفسي للأكاديمية الفرنسية مع أنهم طلبوا مني ذلك، ولكن إذا فشلت في دخولها فسوف تفشل «حركة المقاومة» في اسمي».