تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


حكايات داريو الأندلسي

ملحق ثقافي
3/4/2012
إدريس مراد: مونودراما بطريقة غير معتادة اختار الكاتب والمخرج السوري د. نمر سلمون حكايات داريو الأندلسي ليرسم بها سلسلة من أعمال

المونودراما تحت عناوين مختلفة ليعرضها تباعاً في دار الأوبرا الدمشقية قبل عدة أيام. ومن المعروف إن الكتابة للمونودراما لا تختلف كثيراً عن الكتابة لمسرحية متعددة الشخصيات؛ حيث يتم تطوير الشخصيات في المسرحية متعددة الأشخاص من خلال فعل تبادلي بين الشخصيات.‏

أما في المونودراما فينتقل الفعل التبادلي إلى فعل ذاتي يقوم الكاتب أثناءه بتحفيز شخصية واحدة ويدفعها نحو التطور والنمو ويحدد ردود أفعالها أثناء نمو الحدث، ولكن سلمون يذهب إلى أبعد من ذلك من خلال تجربته هذه؛ حيث يقدم للمتلقي مونودراما بطريقة أخرى غير متعارف عليها في العالم العربي؛ إذ يجر بعض الحضور إلى الخشبة ليكون جزءاً من النص المسرحي لديه ويصبح المتلقي ممثلاً ضمن الطاقم النصي دون سابق إنذار ودون أن يحفظ دوره سابقاً فيعلمه سلمون أصول اللعبة أمام المتفرج.‏‏

لا تخش شيئاً‏‏

نبدأ السلسلة من عرض «لا تخش شيئاً فالموت إلى جانبك» الذي قام نمر سلمون لوحده بإخراجه وبتخيّله وسرده، وتدور هذه السهرة حول داريو الأندلسي الذي يرى في أحد الأيام الموت قادماً إليه، فيهرب منه متنكراً بثياب الحكواتي، لكن الحيلة لا تنطلي عليه، فيفكر بطريقة يقبض خلالها على جمهور حكايته مع المنيّة، طالباً من الناس أن يحموه منها، فهي لا تزال تلاحقه منذ ولادته إلى تلك اللحظة التي يقف فيها على خشبة المسرح. ولكي يربح المزيد من الوقت في الحياة فإنه يطلب إلى الموت أن يسمع بعض حكاياته التي يكون فيها البطل هو الموت ذاته، على أمل أن يربح ثقته وصداقته فيتركه بسلام إلى الأبد، فيقبل الأجل عرض داريو الذي يروي له قصصه التراجيدية بأسلوب ساخر وطريف، مظهراً له وجهه الأكثر بشاعة، وهنا يتأثر الموت بذلك طالباً منه أن يروي له المزيد، ولكن دون أن يتراجع عن إصراره على قبض روحه.‏‏

على مدار ساعة ونصف قضاها سلمون بنجاح في كسر نمطية المونودراما المعتادة حيث استنجد بجمهوره ليساعده في القص ليجعل حكايته جماعية لكي لا يدخل إلى سياج الموت المخيف لوحده، وبالتالي تتحول مسرحية الكادر الواحد إلى طاقم متكامل من خلال توريط المتلقي في تفاصيل الحكاية لنجد زوجين يتسللان من الصالة إلى الخشبة ويتلوان الحوار مع سلمون كأي ممثل، ما جعل كل الحاضرين في حالة تأهب ليكونوا ممثلين مسرحيين في أي لحظة. ولهذه الطريقة أهمية كبيرة وخاصة من ناحية الانتباه الجدي والابتعاد عن الملل خاصة أن مدة العرض طويلة بالنسبة للعروض ذات الممثل الواحد.‏‏

‏‏

مغامرة ولكن‏‏

الدخول إلى عالم المونودراما في هذا الوقت الذي فيه تفرض الدراما التلفزيونية نفسها في كل بيت، ولعبة الحكاية ذات تعددية الأشخاص يعتبر مغامرة، ولكن صاحب حكايات داريو الأندلسي «سلمون» لم تخفه هذا المغامرة ربما لأنه يدرك أهم المزايا التي تتمتع بها مسرحية الشخص الواحد حين تستطيع إزالة القناع كما يقول «لويس كارتون» في كتابه «قوة الشخص الواحد»، حيث يؤكد لنا كارتون على إننا في الحياة الاعتيادية نستمتع بارتداء أقنعة مختلفة سواء في العمل أو في حياتنا الاجتماعية كما يؤكد أنه في المسرحية متعددة الشخصيات فإن كل شخصية ترتدي قناعاً يختلف مع الأوضاع المختلفة للأحداث في المسرحية، أما في مسرحية الشخص الواحد فإننا نرى شخصية واحدة بلا قناع وهذه تعتبر ميزة لأننا نتفحص وننظر نظرة عميقة في دواخل الذات الإنسانية. ويستشهد لنا بهاملت حين يقول مونولوجه الشهير لوحده دون حضور الشخصيات الأخرى «أن أكون أو لا أكون هذا هو السؤال»، هنا هاملت قد نزع قناعه الذي ما كان ممكناً لو تواجدت شخصية أخرى حوله. كما يعتبر كارتون إزالة القناع حالة ورحلة مثيرة للمتلقي يرى من خلالها أصالة الإنسان وجوهره. أما بالنسبة للممثل فهو يعتقد انه بإزالة القناع يظهر ضعفه أمام الجمهور ما يمنحه حالة متفردة وتجربة مدهشة له وتعاطفاً كبيراً له مع الجمهور، ومن هذه أيضاً هرب سلمون عندما زج بجمهوره في الحكاية ليتعاطفا معاً لنص أصبح للاثنين وليس لصاحب العمل وحده.‏‏

‏‏

حكايات تفرضها الغربة‏‏

تابع سلمون حكاياته المستمدة من حكايات داريو الأندلسي، ليقدم بعد «لا تخش شيئاً فالموت إلى جانبك»، واحدة أخرى تحت «حكايات تفرضها الغربة» وذلك ليجسد فيها عذابات الغربة عن الوطن والاغتراب بالطريقة ذاتها وهي إيجاد ممثلين من الحضور مستفيداً من نظرية الجمهور الخلاق لنر طفلة لا تتجاوز عام من عمرها لتكون معه على الخشبة طيلة مدة العرض وتبين فيما بعد أنها طفلته «سوسنة»، تارة تلعب بشعره وتارة تمسك بالعصا الموجودة بيد سلمون وكأنها ممثلة بارعة لا تخاف المسرح ولا المتلقي، واستمر سلمون بجر بعض الحضور إلى المسرح ليشاركه العرض ورهبة الخشبة.‏‏

وحكايات داريو الأندلسي العربي الأصل الإسباني الجنسية تقارن دائماً ما بين نشأته العربية وثقافته الغربية المكتسبة من خلال قصص إنسانية بسيطة يلتقطها من هنا وهناك بانياً عليها أفكاره ورؤاه حول المفارقات التي يعيشها المغترب.‏‏

عزلة يفرضها الواقع‏‏

أتخيل أن العزلة التي فرضها العصر على الإنسان بوجود هذه التكنولوجيا الهائلة من الفضائيات والأنترنت والألعاب الحاسوبية وبالتالي فصل المرء من كل شيء حوله بدء من أولاده إلى أصدقائه، هذه الأشياء وفي العصر الحديث جسدت حالة عزلة الممثل الواحد على خشبة المسرح، ليتلو ما بداخله من شجونه وأحزانه وأفراحه إلى المتلقي، ومسرحنا السوري شهد تجارب عديدة من هذا القبيل منها تجربة ممدوح عدوان التي قدمها الممثل البارع زيناتي قدسية كالقيامة والزبال، ومن التجارب الجديرة بالذكر هي المشاهد المنفردة التي قدمها دريد لحام في أعمال محمد الماغوط وخاصة «كاسك يا وطن»، وهناك تجارب عالمية استفادت من تكنولوجيا عصرها لتجسدها في النصوص وهنا تحضرني مسرحية «أغنية ألتم» لتشيخوف، والعجوز فاسيلي الذي تذكر أيامه التي انسابت بين أقدامه، محاولاً تجسيد أدوار ذهبت مع الأيام، في مسرح قديم يجالس فيه وحدته، مع ملابس وإكسسوارات وأشياء أخرى مستخدمه من قبل، ثم يأتينا بعد عشرات السنين صاموئيل بكيت، في مسرحية «شريط كراب الأخير»، الذي يجعل البطل كراب يستخدم جهاز مسجل الصوت، مستفيداً مما وضعته التكنولوجية، من تسهيلات في متناول اليد، ودعم الشخصية وإيصالها إلى المتلقي.‏‏

 هكذا بعد هذه الثورة وأقصد التكنولوجيا، أصبحنا لا نرى عملاً مونودرامياً، إلا وكان له دور فاعل، وهذا ليس عيباً، وإنما دليل صحة وعافية، فالمسرح الذي يتعايش مع جميع العصور مستفيداً مما هو موجود وموظفاً إياه على خشبته أقل ما نقول بحقه إنه هو المسرح الحي الساحر.‏‏

وهذه مقدمة لأقول بأن تجربة سلمون هي جديدة بكل المقاييس سواء من حيث النص وسرده بطريقة الراوي، أو من ناحية النص حيث رأينا لأول مرة على ما أعتقد نص تاريخي بطريقة المونودراما حيث قدمت التجارب السورية السابقة الذكر مسائل عصرية لها علاقة بمشاكل اليومية.‏‏

‏‏

الفن يفهمه الجميع‏‏

يقول د. نمر سلمون عن الاستماع إلى الحكاية: «لكل منا أسبابه الخاصة للاستماع إليها، الحكايات تصل إلى الجميع، وقد أخطأنا في فترة من الفترات حين اعتقدنا أن الفن لا يفهمه الجميع، وأنه لفئة من الناس، نخبة تقرأ وتكتب، غاصت في تاريخ الفن والمسرح، فصرنا نقدم أعمالنا لهؤلاء. أنا ضد النخبة في هذه المسألة، النخبة هي الشعب من أصغر الناس فكرياً إلى أكبرهم».‏‏

ويقول أيضاً: «في أي حكاية تلاحظ تشويقاً على نحو ما. نحن، مثلاً، لا نصبر على المسلسلات التلفزيونية إلا من أجل الحكاية، نريد أن نعرف ما حدث للشخصية وكيف تطورت، وبالتالي انجذابنا إليها مصدره التشويق في حكايتها، والتي تتسم غالباً بفلسفتها الخاصة البسيطة التي تصل إلى الجميع».‏‏

وينهي حديثه قائلاً: «مسألة مهمة أن يكون للعمل المسرحي أو الأدبي فلسفته الخاصة، ولا أعني هنا التعقيد، وإنما أن يكون فيه فكره الخاص الذي يميزه عن الحكاية الأخرى، حتى الحكايات التي هدفها الضحك، إن لم يكن الضحك فيها تهريجاً، فهو فلسفة بحد ذاتها. وبالتالي فمسألة إعطاء الحكاية بعداً فلسفياً شيء مهم جداً».‏‏

قالت لي ابنتي‏‏

اختتم سلمون هذه السلسة بعرض تحت عنوان «قالت لي ابنتي»، بمشاركة ابنته «سوسنة» التي أكملت سنة من عمرها تواً وأيضاً شاركت في العرض «أم سوسنة» ليكون طاقم العرض عائلة مسرحية واحدة بامتياز، حيث كتب على الكتيب الخاص بالحفلة «قالت لي ابنتي» حكايات داريو الأندلسي، تخيلتها وترويها «سوسنة سلمون»، ترجمها عن لغة المناغاة د. نمر سلمون.‏‏

وكانت سوسنة ممثلة بارعة على الخشبة حيث بقيت على المسرح طيلة مدة العرض التي تجاوزت الساعة وكأنها فنانة تدرك خفايا المسرح وكل حركاتها مدروسة من خلال نص محبوك وظهرت بمثابة ممثلة حفظت دورها بإتقان، لينهي سلمون حكايته مع داريو الأندلسي بنجاح ملحوظ.‏‏

يقول د. نمر سلمون : «كنت مصراً على ألا يكون لي أبناء في هذا العالم الظالم حتى لا يعانوا من وطأة «لا إنسانية»، ولم تكن تهمني مسألة استمراريتي في الحياة بعد موتي من خلال أولاد أتركهم يسرحون بلا هدى في رحابها الضيقة، فالحياة التي لفظتني في عز عطائي ليست جديرة باستمراريتي بأي شكل من الأشكال، ولكن في يوم من الأيام وبعد أن بلغت من العمر ما بلغت، لست أدري كيف ولماذا غيرت رأيي وقررت الإنجاب، ربما لأنني عشقت أم ذلك الطفل الذي لم يولد بعد، فأهداني الله «سوسنة» تفوح حباً وحناناً».‏‏

‏‏

سوسنة تعلّم والدها‏‏

ويتابع سلمون حكايته قائلاً: «عند ولادة سوسنة التي تبلغ يوم 14 آذار 2012 «ليلة العرض» عامها الأول، كنت أعتقد أنني قطعت مراحل متقدمة من المعرفة التي تؤهلني لأن أعلمها للآخرين، وإذ بي اكتشف أنني تحولت إلى تلميذ صغير وبريء بين يدي معلمتي الجديدة «سوسنة»، لتعوض بذلك فراغ معلمتي الأولى «أمي» رحمها الله وراحت آنستي سوسو تصحح لي مفاهيمي عن الحياة بفلسفتها الخاصة، فهي في سنة واحدة رأت ما رأيته في أعوامي الثمانية والأربعين بعينين أكثر ذكاءً واتساعاً، فأشفقت عليّ وراحت تعيد تأهيلي نفسياً بصياغة خبرتها في حكايات تقصها عليّ صباح مساء، فأدركت من خلالها كم أنا جاهل».‏‏

وينهي حديثه قائلاً: «اليوم طلبت إذناً من أبنتي العزيزة بأن أترجم لكم حكايتها علكم تفيدون منها قليلاً، فيكون فهمكم لحكايتها وتواصلكم معها خير هدية منكم لها في عيد ميلادها، شكر خاص إلى أم سوسنة «سوسانا هايرينخ كينان» لأنها رعت حكايتنا وشاركتنا سهرتنا على خجل».‏‏

يذكر أن سلمون أسس فرقة «مسرح الجمهور الخلاّق» بعد تخرّجه من المعهد العالي للفنون المسرحيّة في دمشق عام 1989، والّتي قدّم من خلالها ما يقارب أربعين عملاً مسرحيّاً داخل سوريّة وخارجها، وشارك في مهرجانات مختلفة وله العديد من المحاضرات والمقالات حول الأدب والمسرح، ولديه خمسة كتب مسرحيّة منشورة باللّغة الإسبانيّة ومسرحيّة واحدة بالعربيّة .‏‏

كما نال الجائزة الذّهبّيّة للإبداع لأفضل برنامج للأطفال في مهرجان القاهرة للإعلام عام 2007، واختير محكّماً في لجان أدب الأطفال في بعض المسابقات الأدبيّة العربيّة.‏‏

أخيراً‏‏

إن الإدانة والميزة في العرض المونودراما لا تقلل من التحدي الذي يواجهه الثالوث عند مواجهة هذا النوع من المسرح، الممثل أولاً يواجهه تحدياً في وقوفه وحده ولا ننسى أن الممثل يحمل الكم الأكبر من مفردات الرسالة على عاتقه وتقع على عاتقه مسؤولية إيصالها بكل الوسائل «الكلام، الإيماءة، الإشارة، حركة الجسد، الصمت، الانفعال الداخلي..» إلى الجمهور الذي لن يساوم فإذا لم يكن ممثلاً متمكناً من أدواته سواء في قدرته الأدائية والتنوع وضبط الإيقاع فإن الجمهور سيلفظه من اللحظات الأولى. فالمونودراما لا يوجد فيها نصف أو ربع ممثل، إما ممثل متميز أو لا، أما المؤلف فيواجه تحديه الخاص في كتابته لشخصية لا تردد حواراً فقط ولا تسمع لغة فقط بل إقناعنا بوجود شخصية من لحم ودم تتطور وتتبدل ردود فعلها أثناء تطور الأحداث المتعاقبة، أما تحدي المخرج فيكون ليس فقط بتوجيه ممثله، بل يتجاوزه إلى كيفية ملء الفراغ المسرحي لمدة ساعة أو أكثر بممثل واحد وكيف يدمج جميع العناصر المسرحية الأخرى من إضاءة إلى موسيقى إلى إكسسوارات أو مؤثرات صوتية ومرئية لإغناء الفضاء بمشهدية غير رتيبة لإبقاء الجمهور في مقاعدهم. فما بالك إذا كان كل هؤلاء شخصاً واحداً هو د. نمر سلمون في تجربة «حكايات داريو الأندلسي»؟‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية