الأخرى الروائية منها والقصصية والشعرية وغيرها مما هو ماثل منها في الأجناس الفنية الأخرى.. وإذا كان لزاماً على اللغة أن تمتثل الواقعية لبلوغ الحقيقة والدقة المطلوبة في بحثها التاريخي وتحليلها السياسي والاجتماعي، فإن هذا الامتثال سيكون معيباً إذا ما تمّ في السياق السردي والشعري الذي سيُنْعَت من الناحية الفنية ـ كما هو معلوم ـ بالتسجيلية وبالتقريرية والمباشرة.. فالأثر الذي يُحدثه المنجز الأدبي شيء والمعرفة بسيرورة هذا المنجز الأدبي شيء آخر كما يقول إدغار آلان بو.
عبر هذا الفحوى تمضي الكتابة الإبداعية للتحرر من مأزقها الفني والإبداعي باللجوء إلى التخيّل والتخييل ومن خلالهما تتخطى الواقع المأزوم وتعبر شروطه وتنأى بذاتها عنه رغم زعمها بأنها تقوم بالدخول إليه من بوابة المدرسة الواقعية بينما هي في الحقيقة تمضي باتجاه معاكس يُفضي إلى مشاكسته والاحتجاج عليه والتخلص من اختلاله بكتابات مضادة له ترتسم ملامحها الفنية على نحو سحري حيناً وغرائبي حيناً آخر وهو ما لا يمكن اعتباره واقعياً رغم وسمه بالواقعية وإلاّ كيف لنا إسباغ صورة الواقعية على تحوّل بطل كافكا إلى حشرة؟! وكيف يمكن أن تستوي كفتا ميزان الواقعية في تحرك تمثال الراحل يوسف العظمة لإدانة هزائم الحرب الحزيرانية؟!
إن ما تمّ تحقيقه في هذه الكتابة الإبداعية ما كان ليتحقق لولا جنوحها إلى مغادرة الواقع والخروج عن إساره عبر التخييل الذي حقق الكاتب من خلاله الصيغة الفنية الفُضلى والأجمل لمجابهة مواطن الخلل في الواقع نفسه باعتبار أن التخييل عدسة ذهبية يرى المبدع عبرها الموضوعات وصورها كما يعبر "وردز ورث". والمقولة الشهيرة أجمل الشعر أكذبه ـ أي المفارق للواقع في تراكيبه وصوره المُتخَيلة ـ تصلح على الكتابات الإبداعية الأخرى.
إن القاص والروائي الدكتور عبد السلام العجيلي حين قيل له في القسم العربي للإذاعة البريطانية خلال مناقشة للصورة الواقعية التي جسدها لمجتمعه الريفي: أنت أدهشت القارئ الأوربي بما ذهبت إليه في قصصك بينما ما قدمته فيها لم يُثر القارئ في مدينتك الرقة؟! ردّ العجيلي آنئذ قائلاً بأن ما قدمه في قصصه كان تسجيلاً لحياة ومواقف مواطنه الرقي لم يُضف له من خلالها جديداً لذلك لم تُثره الدهشة كما أثارتها في الآخر الأوربي حين اطلع عليها.
إذاً حين ينقلب النص إلى أداة ناقلة للواقع تتبدى الكتابة الفنية الإبداعية من خلاله فاهية غير مثيرة وذلك بعد امتثالها ومطابقتها صورة الواقع وشروطه إلى حد تذهب فيه إلى استنساخ مجرياته فتندرج حيئذ ضمن مايسمى بالواقعية الفوتوغرافية التسجيلية. ونحن إذا كنا لا نريد للنص أن يذهب في هذا المنحى التسجيلي، فإننا لا نريده في السياق نفسه أن يمتثل كرهاً أو قناعة بمقولة الفن للفن أو أن يكون صدى لها لأن في ذلك مجانية لا تُحتمل وقتل لوظيفة الإبداع ورسالته العظيمة التي ينبغي لها أن تُجَدد بطرقها التعبيرية وتقنياتها ووسائلها كما ينبغي لها المضي بعيداً في اكتشاف ملامحها المدهشة الأخرى التي ما انفكت عن مجهولها بعد وهو ما يتطلب الذهاب بعيداً وعميقاً لحمل الواقع إلى ما بعد واقعي حيث اللعبة في الكتابة الإبداعية ماضية في استحداث أساليبها الفنية الطامحة إلى كشف مخبوء الواقع وتعرية مكر دواخل الظلم فيه على نحو غير معهود.
ألم يتبَع زكريا تامر أحد أبطال قصصه إلى داخل القبر بعدما أهال عليه المشيعون التراب فوجده لا يطيق الوحدة في حفرة الموت ويقرر العودة إلى البيت بعد اشتعاله شوقاً لزوجته، وحين يرجع تقبض الشرطة عليه ويساق إلى السجن! إن لغة الكتابة بهذا السياق استطاعت أن تبلغ شأواً إضافياً في جمالية التصوير حين تخففت من أعباء نقل الواقع وتحررت من ثقل شروط التطابق والملازمة الحرفية له فمضت عميقاً بجناحي التخييل لتحقق مقصودها في إعلان المساواة بين السجن والموت مُدينة بذلك نظم الاستبداد الرسمي وأدواته بطرائق فنية تعبيرية غير واقعية. وإذا كانت الكتابة عبر هذه الطرق استطاعت تحقيق الدهشة دون التخلي عن مهامها ورسالتها، فإن سحر هذه الدهشة ما كان ليتحقق في الكتابة الإبداعية لو بقيت في إسار الواقعية التسجيلية. ولنا أن نُشير من خلال ذلك إلى عدم الدقة وإلى الالتباس الحاصل في نَسْب السحري إلى الواقعي وصولاً لما اصطلح عليه بالواقعية السحرية باعتبار أن السحري هو ما فوق واقعي بامتياز وكذلك الحال المتعلق بالغرائبي والفانتازي. وعلينا في هذا الصدد ألاّ ننسى أن الواقعية نفسها مازالت حتى اليوم غائمة بين الموقف والممارسة والمنهج ورغم ذلك ظل سعيها حثيثاً للاستيلاء على كافة طرق التعبير وتسخير ما استطاعت من مدارسها ونظرياتها ونسبها إليها وإبقائها ضمن توجهاتها العقائدية والأيديولوجية ورشح من جراء ذلك عدة واقعيات تتالت إلى جانب الواقعية التسجيلية فكان ما اصطلح عليه بالواقعية النقدية والواقعية السحرية والواقعية الطبيعية. ولعل ماذهب إليه روجيه غارودي في "واقعية بلا ضفاف" جاء تعبيراً عن أزمة حقيقية لهذه الواقعية؛ كما جاء تعبيراً عن توق لا مواربة فيه لتحرير الكتابة الإبداعية من إسار الأطر المحددة مسبقاً للمسار الإبداعي الرحب أبداً الذي لا يركن ولا يتشكل إلا في فضاء طلق من الحرية التعبيرية والفنية. وما قدمه الراحل محي الدين صبحي في كتابه الذي جاء بعنوان حاد "دراسات ضد الواقعية" يذهب في الاتجاه ذاته ويؤكد على حقيقة الأزمة ذاتها التي تصرُّ على لَيّ عنق النص والزج به وفق التوجهات مسبقة التصميم عينها والتي على النص الإبداعي تجاوزها والتخلص من إسارها والتعافي من فروضها ومستلزماتها ليهتدي إلى ملامحه الإبداعية الأخرى غير المعهودة وهو ما لا يمكن بلوغه إلاّ بكتابة متحررة من الواقعية وخصوصاً التسجيلية منها ليبلغ بذلك خطاب الواقع ومحاكاة همومه ومعاناته وأحلامه وانكساراته بأساليب فنية لا يستنسخ عبرها سيرورة مكنون الواقع بل يعيد صياغتها وتشكيلها على نحو مغاير ومميز ومبتكر عبر خطاب فني يتضارع في سياقه مع الإدهاش ويتماوج في بنية تراكيبه وصوره مع سحرية الإبداع.