كان اكتشاف السينما لأفلام الفن التشكيلي حدثاً فنياً وسوف نجد، مع انتشار السينما في العشرينيات من القرن العشرين، أن العديد من التشكيليين السورياليين كانوا يرون في السينما وسطاً مثالياً لسبر واستكشاف عوالم أخرى. مان راي وهانز ريختر وفرانسس بيكابيا كانوا ضمن الفنانين الذين قاموا بمحاولات تجريبية مع الفيلم لغايات سوريالية. بيكابيا كتب سيناريو فيلم «استراحة» من إخراج رينيه كلير. وسلفادور دالي شارك بونويل في كتابة وإخراج «كلب اندلسي».
إن هذا الانتقال من الوسط التشكيلي إلى الوسط السينمائي يجعل هؤلاء الفنانين، وعلى نحو محتوم، يوجهون اهتماماً وعناية أكبر بتكوين الصورة. عندما يأتي الرسام إلى الفيلم فإنه، بالضرورة يأتي حاملاً معه نظرة التشكيلي إلى التكوين واللون. ولابد أن وظائف الرسام والمخرج السينمائي تغذي بعضها البعض. والشاشة كحامل أو فضاء مشترك بين السينمائي والتشكيلي، ترمي الجميع نحو آفاق تشكيلية لامتناهية تطرح حزمة من الأسئلة النظرية والجمالية.
قدمت السينما، طوال تاريخها، العديد من الأفلام عن الفنانين التشكيليين، وكانت بداية علاقة جديدة بين السينما والفن التشكيلي بعض هذه الأفلام يحتفي بالفنان بوصفه عبقرياً معذباً، رائياً. وأعادت السينما عشرات المرات تناول سير فنانين مثل فان غوغ وبيكاسو ودالي وغويا وفريدا كاهلو وغيرهم.
في السينما العربية أنجز عدد من الأفلام عن فنانين تشكيليين عرب، فقدم المخرج المصري عاطف الطيب فيلماً روائياً عن رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي. أدى دوره نور الشريف. وقدم المخرج السوري محمد قارصلي سلسة أفلام بورتريهات عن فنانين سوريين في المهجر منها فيلمين تسجيليين عن الفنان السوري الراحل عبد اللطيف الصمودي والنحات السوري المغترب عاصم الباشا. والفيلم الوثائقي «ممتاز البحرة» كتب السيناريو وإخراج يوشع سلمان. بدا من اللقطة الأولى أن الزمن والمرض قد ظهرا في جسد هذا الفنان الذي تجاوز واحداً وسبعين عاماً.. وطغت لحظات الصمت على حضوره... وظهر أن ما تبقى لممتاز البحرة ريشته وألوانه وطفولته الساحرة، التي أبهج بمخزونها النقي والعذب أجيالاً من السوريين. وقد تميز تعليق الفيلم بلغته الفنية التي تحاول أن تختزل ثراء تجربة هذا الفنان في مجال رسوم الأطفال وأثرها في ذاكرتنا.
وفيلم «جميل شفيق» لعلية البيلي فيه عرض لأعمال الفنان جميل شفيق ليس من منطق التتابع الزمني أو التاريخي، بل من خلال رؤيته الخاصة وطرحه لمواقف حياته وتناوله للموضوعات المختلفة التي تعكس فكرة وأسلوبه الخاص وحساً شاعرياً يسمو فوق دائرة الأحلام الذاتية .ورؤية تعكس مخزون مصري قديم تفرز شعراً وفكراً وعاطفة.
ويتساءل الفنان جميل شفيق خلال الفيلم عن طبيعة العمل الفني وعن حرية الفنان. وقد عبرت فيه المخرجة عن فهم عميق للعالم الفني للرسام والنحات المبدع. وقدمته للمتفرج في إيقاع محكم من دون تعليق عبر الصمت والموسيقي وإضاءة المصورة الموهوبة نانسي عبد الفتاح. واختارت من أحاديث الفنان عن حياته وفنه عبارات قليلة دالة. واختارت من اللقطات التي صورته فيها لقطة واحدة تتكرر مرات محسوبة من البداية إلى النهاية مصورة بعدسة «الفيش آي» أو عين السمكة. فكانت ركائز الإيقاع، وتعبيراً عن الدور الجوهري للسمكة في عالم جميل شفيق في نفس الوقت.
وفي فيلم المخرجة عرب لطفي «غرفة مظلمة، حياة مضيئة» من خلال رحلة حياة الفنان التشكيلي وفنان الفوتوغرافيا «محمد صبري» نتحرك داخل مدينة القاهرة منذ الأربعينات حتى الآن في عالم متنوع ما بين عالم الصورة الفوتوغرافية وعالم الصحافة المصرية وتجارب الفن التشكيلي التي كلها عناصر شكلت حياته وشكل هو بها عالم.
فيلم «حلم المياه» لحسن السوداني تجربة بصرية تحاول الخروج من دائرة الفيلم التسجيلي التقليدي إلى الدراما التسجيلية معتمدة في ذلك على رحابة الصورة التشكيلية وكرنفال الألوان المنتشرة في لوحات الفنان التشكيلي علي النجار الذي عرف عنه جرأته العالية في استخدام اللون داخل اللوحة، ما منحه تميزاً أسلوبياً متفرداً. والفيلم ينتقي ثيمة واحدة «الماء» من أعمال النجار وكيفية تعامله مع هذه الثيمة في أعماله الفنية سواء تلك التي تحفل زمنياً في بدايات التجربة أو تلك المتأخرة إبان انتقاله للعيش في السويد. وقد حاول الفيلم استثمار هذه العلاقة عبر كشفه عن التمازج بين تدفق المياه في الطبيعة ومثيلاتها داخل اللوحة أو عبر سرد الفنان لبعض تجاربه الحياتية وعلاقتها بالماء.
المخرج السينمائي تحسين محسين في فيلمه التسجيلي «بورتريت لفتحي» يصور على مدار أربعين دقيقة مراحل مختلفة من حياة الفنان التشكيلي البارز فتحي غبن وأبرز أعماله الفنية وتحدياته للصعاب. وكيف استطاع هذا الفنان البارع تجسيد القضية الفلسطينية والتراث الفلسطيني بريشته المتواضعة.
يعد الفيلم الوثائقي جواد سليم ونصب الحرية «Jawad Salim & The Freedom Monument» الذي أنتجته رابطة الفنانين العراقيين في أمريكا وكندا، أول فيلم وثائقي عراقي عن «نصب الحرية» الآيل للسقوط في بغداد «بصمت».
فكرة الفيلم والسيناريو من إعداد الفنان التشكيلي والمؤرخ العراقي عامر حنا فتوحي. ساعد في تهيئة مواد الفلم إضافة إلى معده الفنان الشاب المتخصص بتقنيات مؤثرات الكومبيوتر ننار عامر حنا، راجع مادته الفلمية «الروائية ومنتجة الأفلام» وئام نعمو، الإشراف الموسيقي مؤسسة هايتيك، وأخرجه الفنان الفوتوغرافي زهير شعوني.
الفيلم العراقي «جبر علوان: ألوان زمن الحرب» إخراج كاظم صالح موضوعه لوحات الفنان العراقي العالمي الكبير جبر علوان الذي يعيش في المنفى بين أوروبا والدول العربية منذ سنوات طويلة.. وقد تمكن المخرج من الربط بين اللوحات التجريدية ذات الألوان النارية الصريحة ولقطات تسجيلية من زمن الحرب علي نحو خلاق ومبتكر مستخدماً المونتاج والغرافيك والعلاقات اللونية بين الواقع والخيال من دون تعليق ولا حوار ولا كتابات على الشاشة. فتحولت الحرب إلى لوحات. وبدت اللوحات في حالة حرب. وينتهي الفيلم بأغنية إيطالية عنوانها «وداعاً يا روما» في إشارة موحية إلى قرب نهاية المنفى والعودة إلى الوطن.
ومن خلال هذه السردية ينفذ الفيلم إلى التسجيلية بمعناها المتعارف عليه. وهي تسجيلية تعتمد البساطة في تكوين اللقطة وتبتعد عن التعقيد مستثمرة ومركزة على الإيقاع الداخلي للوحات التشكيلية وإيقاع لقطات الماء المتدفقة وحركة الفنان داخل مرسمه وتعامله مع الطبيعة.