فعله لإيجاد بيئة أفضل لنفسه، فهو يبقى إنساناً ولكنه يسمو على ذاته. هو وصف الإنسان كما لو أنه «عُيّن فجأة المدير التنفيذي الأعلى لأكبر شركة- عملية التطور Evolution». هذا الإعلان ربما يتفق معه اليوم العديد من الأيديولوجيين الداروينيين. وحسب قاموس ويبستر لعام 1983 جرى تعريف المصطلح المذكور بالإنسان العملاق superhuman، اما اليوم فهو يعني التحول التطوري للكائن البشري من كونه إنساناً بايولوجياً إلى إنسان متحد مع التكنولوجيا.
إن التطور لم يكن أبداً مجرد نظرية علمية. ومنذ أن صاغه داروين لأول مرة، جرى توظيف نظرية التطور لإيجاد مختلف المشاريع السياسية. «الداروينيون الاجتماعيون» المؤيدون لحرية الرأسمالية أعلنوا أن أحلامهم السياسية لها جذورها في نظرية التطور. كذلك بالنسبة للنازيين والشيوعيين والفوضويين ومهندسي الفابية الاجتماعية. اليوم، تُطرح الداروينية كجزء من حملة ضد الدين من جانب بعض دعاة التحرر. وتكمن خلف البرامج السياسية المتعددة التي ارتبطت بها الداروينية عقيدة هكسلي بأن البشرية هي الآن في موقف التحكم بمستقبلها التطوري.
إن الانجاز الرئيس في نظرية داروين هو أن التطور يعمل في غنى عن الهدف أو التصميم. التطور هو عملية بلا اتجاه، تُنتج أشكالاً من الحياة شديدة التعقيد فقط لتختفي فيما بعد. ليس هناك تقدم في الطبيعة، ولكن في مجال الاخلاق والسياسة ارتبطت فكرة التطور بشكل أو بآخر بأمل التحسن. أجيال من المفكرين التقدميين تبنّوا الداروينية لدعم رؤيتهم بمجتمع عالي التطور. غير أن محتوى هذه الرؤى قد تغير بمرور الزمن، وأن إحدى فضائل الجين السياسي هو بيان الكيفية التي اُستعملت فيها الداروينية لتعزيز أحلام الإنسان بالتقدم باعتباره إنساناً غير متحرر، سلطوي، أو عنصري.
وبالمقارنة مع «الكتاب الأسود للشيوعية» الذي نُشر في فرنسا في اواخر التسعينات من القرن الماضي، والذي يصف بالتفصيل فضائع الشيوعية، يكتب Dennis Sewell في كتابه «الجين السياسي: كيف غيرت أفكار داروين السياسة» أن «الكتاب الأسود للداروينية يحتوي على فضائع حقيقية». الجزء الأكبر من كتاب الجين السياسي يركز على الكيفية التي قاد بها كبار الداروينيين حملتهم لتحسين النسل. فمثلاً Francis Galton «1822-1911» وهو أحد مؤسسي علم النفس الحديث، استعمل نظرية داروين لتدعيم تخصصه «كمشروع متفائل يعطي أملاً طوباوياً»، خاصة في روايته غير المنشورة Kantsaywhere، التي تتحدث عن جمهورية طوباوية تحكمها إحدى كليات تحسين النسل، حيث يتولى القائمون على الكلية وضع وإدارة «اختبارات أنثروبومترية» لقياس مدى لياقة البشر.
ومع أن يوتوبيا غالتون تبدو كريهة وبعيدة عن الواقع السياسي للقرن العشرين، إلا أن أفكار تحسين النسل التي دعا اليها غالتون أُخذت على محمل الجد، خاصة في الولايات المتحدة التي وافقت 33 ولاية فيها على قوانين منع الإنجاب، وما لا يقل عن 60 ألف شخص جرت إعاقتهم عن الإنجاب باعتبارهم «غير لائقين».
في ألمانيا، كان Ernst Haeckel «1919- 1834» زعيم المناصرين للداروينية، وهو كما غالتون، سعى إلى تعزيز فكرة الترتيب العنصري الهرمي. مؤكداً على أن» العرق الأدنى كان الأقرب سيكولوجياً إلى الثدييات – القرود والكلاب- منه إلى الأوربيين المتحضرين». كان Haeckel يشكل ركناً هاماً في إضفاء الاحترام العلمي على عملية التصنيف العرقي. لا يمكن تأكيد المقدار الذي اُستعملت فيه أفكار «هاكل» من جانب النازيين، ولكن مما لا شك فيه أن كتاباته كان لها أثر بعيد المدى كونها فتحت الباب واسعاً أمام علم عنصري زائف في أوروبا.
بالتأكيد، إن نظريات داروين بصيغها المتعددة جرى توظيفها في الدفاع عن بعض القضايا الكريهة، وعندما رُبطت هذه مع النظريات العنصرية، خلقت مناخاً أصبح فيه بالإمكان قبول التطهير العرقي كسياسة يمكن تبريرها علمياً. وهنا يعلن المدافعون عن الداروينية في القرن الواحد والعشرين عن سخطهم ورفضهم للإساءات التي لم ترد وبأي شكل من الأشكال في نظرية الاختيار الطبيعي. هم يؤكدون أن داروين كتب بالفعل عن «الإنسان المتحضر» الذي سيحل محل «الأجناس المتوحشة»، وهو لم يطور أي نظرية في التباين العنصري الفطري. وإذا كانت الحركات العرقية تميل دائماً إلى العنصرية، فإن نظريات النسل لا تحتاج منطقياً، وبأي مقدار، إلى قبول العرق كصنف علمي. وبشكل أعم، لا يمكن لأحد تحميل النظرية مسؤولية ما يتبعها من استخدامات، وذلك لأن الأحكام القيمية لا تصدر أوتوماتيكياً من الادعاءات التفسيرية لتلك النظرية.
هذه النقطة الأخيرة تأكدت من جانب مختلف الحركات التي ادّعت قربها من التفكير الدارويني. إن النازيين المناصرين «للعنصرية العلمية»، والشيوعيين الذين اعتقدوا بالمستقبل الجماعي للإنسانية، والفوضويين المؤيدين لـ Peter Kropotkin الذي يعتقد أن النظرية التطورية أثبتت أهمية التعاون المتبادل، دعاة حرية العمل مثل هربرت سبنسر «صاحب اختراع البقاء للأصلح» وكبار كهنة الهندسة الاجتماعية مثل Lord Beveridge المناصر القديم لتحسين النسل، جميع هؤلاء – كما يقول Sewell ليسوا على صواب. ربما من المنطقي الاستنتاج أنهم كانوا على خطأ، لعدم إمكانية اشتقاق أي موقف أخلاقي أو سياسي من الداروينية.
غير أن الامور ليست بهذه البساطة. المبشرون المعاصرون بالداروينية يستمرون بالادعاء أنها تدعم برنامجاً سياسياً محدداً وهو الصيغة المتشددة للعلمانية، وهي تهدف لتحويل الإنسانية إلى ما يعتبرونه رؤية علمية للعالم. غير أنهم لم يفسروا منطقهم هذا أبداً. إن الظاهرة التي لها من الشمولية بمقدار ما لدى الدين يحتمل أن يكون لها نفس الدور التطوري. وحتى لو اعتبرت الأديان لا توصل إلى النتيجة المرجوة، فإن نتيجة العلم الدارويني هي أن الحيوان الإنساني لا يستطيع العمل بدونها، وفي هذه الحالة، فإن الداروينية ترى أن الإلحادية التبشيرية هي عملية سخيفة وبلا معنى.
إن ما حدث بالفعل هو أن التطور جرى التعامل معه كدين. «غالتون» كان يأمل في يوم ما أن يكون للنسل سلطة الكنيسة. «هاكل» وضع مشروعه لكي يجد «ديناً تطورياً». أما «هكسلي» فقد اعتبر الإنسانية العملاقة بديلاً عن الدين.
ذكر لنا Sewell أن هذا ليس مجرد كتاب في الدين. بل إنه يعالج التقاطع بين نظرية التطور والسياسة. طريقة «سيول» في معالجة الموضوع حرمته من الدعاية الكبرى للعلم الاجتماعي التي كان فيها لفكرة التطور دوراً مركزياً. انظر في أعداد الكتب الهائلة المكدسة في رفوف مكتبات الجامعات جميعها تحتوي في عناوينها على «التطور الاجتماعي». إن فكرة المجتمعات «تتطور» بمرور الزمن، وأن بعضها يصبح أكثر تطوراً من الأخرى ظلت سائدة لعدة أجيال. مع ذلك هي ليست أكثر من استعارة مضللة. لا يوجد هناك شيء في المجتمع مشابه للاختيار الطبيعي، أو أي شيء يمكن مقارنته بالجين. لقد سعى Sewell لتدقيق الاستخدامات السياسية الصريحة للداروينية، ووجد أن نظريات التطور الاجتماعي إنما هي استراتيجيات لمنح القيم السائدة سلطة العلم. من الواضح دائماً، أن المنظرين يفترضون مستقبلاً مليئاً بصيغ تحبها ذواتهم – الاعتقاد بمسيرة التقدم إلى الأمام.
في الواقع، لم يكن للتطور أي دور في التقدم، فالتقدم له مفاهيمه. ولكن الالتباس بين الاثنين كبير. هو يعبر عن الوهم الكبير في الزمن الحديث – أسطورة أن المعرفة العلمية تمكّن الكائن الإنساني من السيطرة على مصيره. الدرس المستخلص من الداروينية هو أن الكائنات الحية ليس لها هدف جماعي. «الإنسانية» ليست هي من يستعمل نتائج التحقيق العلمي. إنما بعض الناس يستعمل العلم للسيطرة على الآخرين. ومن حسن الحظ، لا توجد جماعة سيطرت على البشرية بالكامل. إن رؤية هكسلي ستبقى مجرد حلم قبيح. مع ذلك لا نظن أن الإعجاب بهذه الفنتازيا سوف يتلاشى، لأنه يلبي الحاجة إلى الإيمان ويعطي في نفس الوقت الأمل المغري بالحكم.
عن مجلة NewStatesman