هو حال «حسن النساخ» الشاعر، الذي أخرجه شعره من دائرة الحياة إلى دوامة الحلم...ليستفيق خلف قضبان الاتهام...تلك فكرةٌ واحدة من بين «زحمة» الأفكار التي قدمتها مسرحية «الأميرة والصعلوك»، من وحي حكايات «ألف ليلة وليلة»، لكاتبها المصري الراحل «ألفرد فرج» ومخرجها «حسين إدلبي» مع نخبة من الممثلين المبدعين.
الحكاية التراثية هي بوصلة العرض.... حرص «إدلبي» على نبش حساسيتها وجماليتها، بأسلوب كلاسيكي درامي، فيه توليفة اسطورية للظاهر والباطن...وامتزاج مبتكر للمتناقضات المُعاشة (الفقر والغنى) و(الخير والشر) و(الخيال والحقيقة)...تتوالى هذه الثنائيات المتضادة بصورة لافتة في نسيج إبداعي غني، لا يكتفي شرطه الواقعي، بل ثمة تصعيد درامي على مستوى دمج الخيال بالواقع، والوهم بالحقيقة، لدرجة فقدنا مفاتيح التمييز بينهما، وصدمنا باللا متوقع في وهرة مشهدية مبهرة...
هذه «المواربة» التي طرحها ألفرد فرج، تشي بتداخل خاص بين حياته الشخصية، وقراءته لواقع الصراع الطبقي في مجتمعه...وهو ما ترجمه «إدلبي» بوعي أدواته الفنية، وبروز طاقات الممثلين الإبداعية، خاصةً الفنان «تيسير ادريس»، الذي لعب دور «حسن النساخ» المتمرد على الرداءة...ينسخ «ألف ليلة وليلة»، ويزيد أشعاره الماجنة، وينسخ مقدمة ابن خلدون، فيحيط متنها الأصلي بما يغضب الحكّام.. يُطارد من قبل الشرطة..فيتنكر بثياب «الشحاد» في الوقت الذي تُقبل الأميرة «زمردة» على الزواج به كأقبح وأفقر رجل، انتقاماً من طليقها الخائن، ومن ثم ترميه..ليبقى عشقه لها معلقاً في نهاية الحلم.
تيمة العشق تلك تأخذنا إلى ماهو أبعد من العشق.... إلى ماورائيات سياسية، وحلم مثقف، وصراع متنافرات... تتخم العرض بأبعاد كثيفة قريبة وبعيدة، تتعالق برؤيتها وأسلوبيتها الإخراجية في صوغ مغزاها المحمول على التقارب مع أبجدية الواقع المعاش على اختلاف الزمان والمكان.
طقس المسرحية... يشهد على خوض المخرج في ذاتية «ألفرد فرج»، وبث روحه من القاهرة إلى دمشق، بما يتماهى تماماً مع البيئة الشرقية الدمشقية والسوق الشعبي...دون تشويه للعناصر الدرامية الاساسية.... مع رهانه القائم على شخوصٍ تراثية، توارت خلفها جملة من الدلالات والإسقاطات الرمزية، التي لم تأت صدفةً، بل جاءت لتمتع المتفرج بمتعة الإلحاظ والتفكير بالمكنونات المستترة، وتفتح بوابات الأسئلة...
هل كانت شخصية الأميرة «زمردة» رمزاً للحرية المستحيلة بالنسبة لمثقف يبحث عنها؟ أم توصيفاً للصراع الطبقي...والاستهزاء بالفقراء...؟
وشخصية «حسن النساخ» هل ترمز إلى الكاتب السياسي المناضل؟، أم الإنسان المهزوم الهارب من بشاعة واقعه إلى جمال حلمه...؟، أم تذهب إلى اختناق الثقافة في جوٍ يُطارد فيه الكاتب... وبيئةٍ تصحرت من الفهم، لدرجة أن يُحكم فيها على شيطان الشعر والملهمة الشعرية بالإعدام.
كثرت الدلالات وتجاذبت ضمن طوق درامي محكم، استحوذ على جرعة دسمة من الكوميديا والتهكم الرشيق... مع لوحات غنائية تراثية، ورقصات فلكلورية، قدمتها فرقة «أمية» للفنون الشعبية، كفواصل من جنس الأحداث الدرامية المتلاحقة على المسرح، الذي أخذ «ديكورات» لم تكن حيادية، بل موظفة بكل جدية لصالح النص المسرحي...حيث أجواء قصر «ألف ليلة وليلة» والبذخ والترف والسوق الشعبي الذي ضاق بماريه وبائعيه، وكذلك «الإكسسوارات» الخفيفة، التي تناولها الممثلون.... أضافت شيئا ًبالغاً من الحقيقة، وأبعدته عن الرمزية التعبيرية، والإيماء المحبب في المسرح... قد يعزى ذلك أن هذا العرض يمتثل للفرجة الشعبية...بمتلاكه جميع عناصرها....بدءاً من الحكاية التراثية، والكوميديا واللوحات الفلكلورية، وكذلك الموسيقا التصويرية المستوحاة من التراث... والحاضرة في كل فصول المسرحية، بانسجام مع الرؤية المشهدية.
يوحي العرض بكل تفاصيله... أنه برعاية من يعشق الحرية... يمنحها لكل العاملين فيه... إيماناً منه بأنها موّلد الحالة الإبداعة، التي تستنهض الاحساس الحقيقي للشخصية، بعيداً عن كينونة الممثل النفسية...لتظهر أكثر إقناعاً للمتفرج....والمفارقة تكمن بانتهاج المخرج للأسلوب الكلاسيكي المؤطّر والذي لايخرج عن النمطية والتقليدية في صياغة الطرح المسرحي.
«الأميرة والصعلوك» كغيره من عروض مسرح هذا الزمان، مشغول بالهم الوطني العام... رسالته الأسمى توجهت على لسان مخرجه إلى «تجار النفط العربي الذين يقايضون على الدم السوري لتحقيق مصالحهم».