الحدائق المعلقة تلك الأعجوبة التي فتنتْ “هيرودتس” وحجزت لها في التصنيف البشري كإحدى الأعاجيب الخالدة عبر الزمن, فهل تخلتْ بغداد عن أعاجيبها أم إنّ معلقاتها الخضراء استبدلتها ناراً؛ يبدو الروائي وارد بدر السالم, ليس إلا “هيرودتس” عصري, شاءت الأقدار أن تقذف به في تلك المدينة, لم يشأ أن يكتب روايته “ عجائب بغداد” من قبل عين وعتْ وعايشتْ الحرب الطاحنة, خوفاً ومكراً من شبهة أيديولوجية بكل تفرعاتها العاطفية والعرقية والدينية والسياسية, فاختار صحفياً له ظل حبل سري من والدٍ, سندباد؛ هجر بلاده وأقام نسبه في موانئ عديدة, لم تكن منها البصرة!؟ وبينما بغداد تحتل من قبل الأمريكان: قال لولده لا تقل لي متى تسقط بغداد؛ كان يُبقي بغداده كنجمة بعيدة في أفق يشتهيه ولكن لا يقصده.
الولد/ الصحفي الذي ألف الشواطئ الغريبة تقوده مهنته لوطنه, لبغداد, ليبعث بتقارير صحفية لصحيفته التي يعمل بها وهي في الخارج وكما تتلمس الأم ولدها الذي عرفته طفلاً وقد عاد لها رجلاً, بدأتْ بغداد بالتعرف عليه والأحرى هو بدأ بنسج حبله السري بين بشرها وناسها وشوارعها وأزقتها ودمائها النازفة ودجلتها وفراتها ومحتليها وسياسييها و.. إلى ما لانهاية من خلطة عجيبة.
يتعرف على المسرحي الذي له قدرة على تمثيل سنوات الحكم السابق وعلى الأستاذ والجسد المقطوع الرأس على يد الزرقاوي وكيف يرفض الموت ويستمر رغم أن رأسه مفقود والأصبع الصغيرة التي بقيتْ من انفجار شلع جسد أخيه للمسرحي وعلبة الرماد, تلك الصبية التي أحرقتْ فقط لأنها أصبحت أخرى, لأنها من منطقة أخرى, يحملها والدها بين يديه وهي تعيش حياتها عبر تموج الرماد والأستاذ الذي يختصر تاريخ العراق من أوروك لهذه اللحظة, فوجد غار حرائه على ضفة نهر دجلة, بنى بيته الصفيحي ومن وقتها تكاثرت حوله البيوت؛ قرية لا تشبه إلا العراق الذي في التخييل رغم بؤس هذه القرية إلا إنها تمور بالخصب, قوس قزح لألوانه كلّها, تعيش في تناغم لا آخر فيه.
في هذه القرية وبعيداً عن الفندق الذي تجمع فيه الصحافيون من كل العالم وأيضاً عن المنطقة الخضراء, كان الصحفي يكتشف وطنه, يعيد ترتيبه كطلل تهدم بفعل الزمن, يبني حدائقه المعلقة, لذلك عرض على الأستاذ أن يقدموا عرضهم المسرحي بمعية رفيقه المسرحي, حيث المسرح هنا هو الحياة وما الخشبة إلا تلك المسرحية والصياد الذي يجمع من النهر هويات القتلى, فتعلق على لوحة, يأتي من ينتظرون أحبابهم, ليوقفوا هذا الانتظار أو يستمروا فيه.
غطت التلفزيونات والراديوهات والصحافة, هذا الاحتفال كما فعلتْ أبان دخول الاحتلال الأمريكي, قليلاً ما قاربت الموضوعية, غطته بكل الأيديولوجيات, بكل الذرائع, بكل المتعة, بكل فجور, لتخرج في اليوم الثاني, تهاجم الأستاذ وأنّ قريته كالورم السرطاني ولتبدأ أصوات القذائف والرصاص ومن ثم النار لتصبح هذه القرية حديقة معلقة في النار؛ يصرخ الأستاذ الذي غيبته النار في الصحفي: خذ حكمتي ولا تتراجع .. ويمرق كشبح لا ظل له . يتلاشى بين رصاص عنيد ينطلق من النهر.ويذوب في نيران حكمته التي اختارها.
أين أنت يا أستاذ !..أصيح وراءه ..
فيرد علي صوته من مسافاتٍ بعيدة :
لا تترك المرأة وحدها
ثم يأتي الصدى :
تشبث بها وأعطها ما فقدَته..
أصيح بصوت جمعت فيه كل خوفي :
وماذا حصل يا أستاذ ؟؟!!
يأتيني صوت الأستاذ من كل ركن يشتعل الآن بالنيران وتعصف الانفجارات به بلا رحمة :
لقد قتلوا الصياد !
قتلوا
الصيااااااااااااااااااااااااااااد ...
ينتهي الحلم أم التخييل أم هل بدأ الآن في هذه اللحظة!؟؛ الصياد الذي كان يكشف عمليات القتل والتصفية؛ يموت ولكن هناك من يعرف وقد خبر النهر وتتلمذ على يد الأستاذ؛ إنه الصحفي / الجيل الجديد الذي سيبني ولن يوقفه أحد, فلا أحد قادر على أن يمنع العراق من أن يكون نفسه مهما طال الزمن.
المنصة الحيادية والسرد من الداخل:
يختار الروائي مفهوم السرد من الداخل, لسببين: الأول: ليحقق دهشة التعرف من قبل الصحفي العائد لوطنه, فتبنى العلاقة يوماً بيوم, وهكذا يسقط شبة الراوي العليم, وتتحقق الألفة بين السارد والمتلقي. الثاني: بهذه اللعبة يخفف عبء التاريخ القريب والآني عن عاتق السارد, فلا يأتي بخلفيات مسبقة, بل بعاطفة نقية تجمعه مع العراق الذي تتقاتل عناصره وتتنافر ويتقاتل فيه الآخرون, حتى صار كشبكة العنكبوت والهدف من ذلك تحقيق حيادية تخيلية, قد يعاب على المؤلف إنْ لم يلتزم بها, فهو يلاعب نار العراق المشتعلة, فلا بد من أن يحرق أصابعه وهذا ما استطاعه؛ المؤلف والروائي والسارد من الحفاظ على أصابعهم نظيفة من شبكة العنكبوت تلك لأن بوصلتهما كانت العراق والعراق فقط.
الصحفي/ الأستاذ؛ ضرورة البطل:
تغدو الشخصيات الأخرى في الرواية تنوس بين صوت, يوجه الصحفي أو صدى لفعله, سواء من والده أو “ بوحمد” رئيس تحرير صحيفته, أو الصحفيات والصحفيون ومن ذكرناهم سابقاً, فجميعهم يخبون أمام الصحفي والأستاذ وهنا الهدف ليس كلاسيكية أو محاباة للمتلقي الذي تستهويه قصص الأبطال, فيتمثلهم, بل لأن كل من الصحفي والأستاذ هما تمثل للعراق, فقد كان لابد من أن ينحو السرد هذا المنحى والبحث عن البطل الملهم.
أيها الآخر أنا أيضاً آخر:
الرواية تكشف ما آل إليه الوضع في العراق من تفتت وكيف الأخوة ضاعت مشاربهم وتاهت بهم الجهات, حتى صار الآخر/ الأخ؛ هو الجحيم الذي يحرق نفسه ويحرق الآخر غيره ومن خلال هذا المفهوم تصرخ الرواية : أيها الآخر أنا أيضاً آخر, فلماذا!؟, لنوقف هذه النار ولنفهم؛ أنه لا آخر بين أبناء الوطن الواحد.
بغداد الرواية:
رواية سلسة, عميقة الرؤية والرؤى, تستلهم مقولة جلجامش” الذي رأى” وبعدها عاد لأروك ليبنيها, للرواية هذه القوة الناعمة وأنْ نحكم بالتخييل, فهذه إرادة للحياة ؛ “عجائب بغداد” رواية للروائي وارد بدر السالم.
Bassemsso91@gmail.com