في هذا الوضع، يبدو أن الاستراتيجية التفاوضية مع إسرائيل بشأن إقامة دولة فلسطينية تتضح في الوقت الحاضر أنها تقود إلى سراب، وتقتضي المصلحة الصهيونية، تعميق هوة الشقاق بين طرفي السلطة الفلسطينية ( حركتي فتح وحماس)، للقضاء على أي أمل في عودتهما إلى طاولة الحوار، مستخدمة في سبيل ذلك سياسة الترغيب والترهيب عبر بيع الوهم للسلطة بأنها بمقدار بعدها عن حركة «حماس» سيقترب منها ومن تحقيق حلم الشعب الفلسطيني في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فيما عودتها إلى الحوار مع «حماس» تعني القضاء على فرص التسوية السياسية، وهي التسوية التي لن تكون دولة الاحتلال يوما على استعداد لدفع الثمن من أجل الوصول إليها، إذ يقتصر هدفها من هذه المماطلة على تعميق الفجوة في العلاقات الفلسطينية الداخلية. وكانت وزيرة الخارجية «الاسرائيلية» تسيبي ليفني طرحت فكرة إخراج غزة من أي حل أو اتفاق ، وهو ما صرحت به.. وقولها إن أي محاولة لإيجاد صيغة تفاهم بين فتح وحماس ستكون خطأ بالغاً. وهذا يعني حلا منقوصا ، يخلو من الجدية، والرغبة فعلا في السلام.
ومن الواضح أن الرئيس محمود عباس أدرك أخيرا هذه الحقيقة المرة، ففي مهرجان الذكرى الرابعة والأربعين لانطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» ألقى خطابا نقله التلفزيون مباشرة، هدد فيه لأول مرة بالانسحاب من مفاوضات السلام مع اسرائيل، إذ قال:« ماذا تفيد هذه المفاوضات، إذا ظلت الأبواب مغلقة»، مضيفا « أنه إذا استمر العدوان البربري والاستيطان، ومصادرة الأراضي، فإنها تنزع كل معنى للمفاوضات».
وتعتبر هذه التهديدات غير مألوفة في خطاب عباس ولاسيما أنه دأب على تجنب أن يظهر نفسه هو المسؤول عن القطيعة، حتى وإن لم يعد يثق بأي من واشنطن أوتل أبيب منذ سنة، أو أن يستند إلى دعم تنظيم فتحاوي متماسك أو موقف عربي.
وقد دأب عباس دائما على التمسك باستراتيجية التفاوض مع اسرائيل منذ عقود من الزمن، وظل يعيش على الوعود « الوهمية» الأميركية، من دون أن يستخلص الدروس التاريخية من الوعود الكثيرة السابقة. ومنذ انتهاء مؤتمر أنابوليس في نهاية تشرين الثاني 2007. أصبح عاجزا عن القيام بأي حركة. كما أن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل لم تقدما له أي شيء يعزز من صدقيته لدى الشعب الفلسطيني.
اليوم اسرائيل أضعفت السلطة الفلسطينية إلى حد كبير بسبب المماطلة والتسويف في المفاوضات التي لم يسفر عنها شيء يذكر وهذا ما عبد الطريق لكي تكون «حماس» البديل الحقيقي لهذه السلطة المنهكة والمتصدعة أمام التعنت الاسرائيلي الرافض للمطالب الفلسطينية الواقعية، لكن العدوان الصهيوني المستمر على غزة يمكن أن يقود أيضا إلى دفن ما تبقى من آمال بشأن قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، إذ لم تتبلور الى حد هذا اليوم قناعة لدى القيادات الصهيونية أن قيام دولة فلسطينية يمثل مصلحة إسرائيلية.
اليوم تزداد الهوة عمقا بين الإخوة «حماس» و«فتح» وليس هناك أي امكانية لإجراء انتخابات فلسطينية رئاسية وتشريعية إذا لم يتوصل الطرفان إلى مصالحة وطنية حقيقية. وقبل خمسة أسابيع من الانتخابات الاسرائيلية المبكرة والمحددة لمسار التسوية، يبدو أن عملية «الرصاص المسكوب» قد جرفت في طريقها كل شيء.
كاتب تونسي