(وشمدص جهجاه) مهندس كهربائي غير متخرج، لا تنقصه البراعة ولا المهارة ومشهود له من الجميع بمقدرته الفنية العالية، وكفاءته في ميدانه، وكانت مهمته الإشراف على الأجهزة الكهربائية والهندسية وصيانتها وإصلاح ما يطرأ عليها من أعطال.
ولأنه موظف ماهر وكفؤ كان الرجل معروفاً على سن ورمح كما يقولون، ويقف على أرض صلبة، لا تحركه هفوة، ولا تزعزعه سقطة، ولا تؤثر عليه وشاية أو دسيسة عند الكبار.
غير أن المؤسسة التي كنا نعمل فيها، تحولت بحكم الظروف العامة من ركن هادئ منظم ومنتج، إلى ساحة تضج بالصخب والفوضى وعدم الاستقرار، فقد بدأت المؤسسة تتعرض لهزات شبه مستمرة، وتغييرات في المناصب القيادية العليا، حيث إنه لا يكاد الوزير يستقر في مكانه، وقد تعرف على العاملين وعلى طبيعة وحركة العمل، حتى يذهب ويأتي غيره ليمارس المهام نفسها التي مارسها سلفه، ولكن لايلبث أن يذهب هو الآخر وكذلك الحال مع المديرين العامين والمديرين، حتى أنه في سبع سنوات مر علينا عشرات الوزراء والمديرين العامين والمديرين، ولا أغالي إذا قلت أننا ألفنا هذه التغييرات، كما ألفت أسماعنا المارشات العسكرية التي كانت تسبق البلاغ رقم واحد في أوائل الخمسينيات وقد أثر ذلك تأثيراً واضحاً على سير العمل وحركة الإنتاج وأثر كذلك على نفسية العاملين، حتى بات واحدنا يغادر المؤسسة، ويعود إليها في اليوم التالي وهو يتوقع أن يجد على مقعده (خازوقاً) نجرّ له في غيابه ليجلسوه عليه.
ولكن من الأمور التي كانت تجلب بعض الطمأنينة إلى النفوس أن مؤسستنا في ذلك الزمن العصيب كانت ترفع شعار قطع الاعناق ولا قطع الارزاق، وقد طبق هذا الشعار فعلاً، فلم يسقط تحت غربال التغيير إلا قلة قليلة من أصحاب الحظوظ العاثرة.
وكان صباح وكان مساء، كما يقول سفر التكوين وإذا بالوزير الذي لم يسمح له الوقت القصير الذي مكثه معنا، أن يتعرف علينا قد طار وطار معه المدير العام.
وشعرنا بالغبطة لأن الرجل الآتي إلينا هذه المرة كاتب وأديب مشهور ومعروف على مستوى العالم العربي، ويبدو أنه اختير بعناية فائقة ليقود المؤسسة، ويسير بها ومعها إلى الأمام، لذلك أتينا إلى أعمالنا وجلسنا على طاولاتنا، ونحن نترقب أن يستدعينا الوزير الأديب إلى قاعة الاجتماعات، ليحدثنا عن منهاجه في العمل، ومن ثم يطلق عقولنا من الجمود إلى حرية الإنتاج الإبداعي الصحيح.
وكان صباح وكان مساء آخر، ولكن الوزير لم يفعل ما كنا نتوقعه، وبدأ الهمس واللغط، وخرج أصحاب الأنوف (الشمامة) يستطلعون، ولم يطل الوقت حتى كان كل من في المؤسسة يعلم أن الوزير قد دخل مكتبه فوجد كل شيء فيه معطلاً، من أجهزة الهاتف إلى جهاز التكييف إلى خطوط الإنارة، وإن الورش الفنية منهمكة في العمل دون أن تستطيع اكتشاف مكان الخلل أو اصلاح أي جهاز، وأن الوزير استعان بفنيين من خارج المؤسسة ولكن دون جدوى وبعد أن أعلن الجميع عن عجزهم ويأسهم من تحقيق أي نتيجة ايجابية، جاء من يهمس في سمع الوزير قائلاً: لم يبق أمامنا إلا (شمدص جهجاه) لينقذ الوضع، ورد الوزير: وماذا تنتظرون؟ ائتوني به في الحال، قالوا: إنه في إجازة وصرخ الوزير آمراً ليقطع اجازته ويأتي فوراً إلى هنا.
وفي أقل من ربع ساعة كان (شمدص) يقف أمام الوزير هاشاً باشاً وراجياً من سيادته ألا يشغل فكره بهذه الأعطال السخيفة، ومؤكداً له أن كل شيء سيكون جاهزاً خلال ساعة من الزمن.
ودهش الوزير للثقة الكبيرة التي يتحدث بها (شمدص) وخيّل إليه أن الرجل (منفاخ) أو مدع، فهل يعقل أن ينجح حيث أخفق الكثيرون وهم يفوقونه علماً وخبرة وتجربة، ولكنه أفسح له في المجال لكي يعمل، فغادر مكتبه وراح يتجول في أروقة المؤسسة دون أن يمر على أي غرفة من غرف الموظفين.
وفي أقل من ربع ساعة جاء من يزف البشرى إلى الوزير بأن خطوط الإنارة قد أصلحت، وبعد ربع ساعة أخرى اخبروه أن جهاز التكييف بدأ يعمل كالسابق، وبعد أقل من ثلث ساعة جاء (شمدص) بنفسه وأخبر الوزير أن أجهزة الهاتف عاد إليها الرنين واقترح بحياء ظاهر أن يعود ليرى كل شيء بأم عينيه.
وبالفعل عاد الوزير إلى مكتبه وبرفقته (شمدص جهجاه) الذي كان يسير إلى جانبه مختالاً كالطاووس، ولم لا؟ وقد حقق هدفه وأثبت للوزير عملياً أن المؤسسة غير قادرة على الاستغناء عنه وأنها بحاجة أكيدة إلى مهارته وبراعته ومقدرته الفنية، إضافة إلى أنه كان يمني نفسه بالحصول على مكافأة مالية فورية، وما كاد الرجلان يستقران في المكتب حتى رفع الوزير سماعة الهاتف وطلب من مدير الشؤون الإدارية والقانونية أن يصدر على الفور قراراً بتسريح (شمدص) من العمل وتصفية جميع حقوقه، وهنا أحس زميلنا بالدوار وكاد يسقط على الأرض مغمياً عليه، فقد أيقن أن السحر انقلب هذه المرة على الساحر، وأنه حشر تماماً في الزاوية ووقع في الفخ..
أما الوزير وهو الذكي والمحنك والمعجون بالتجارب، فقد تكونت لديه قناعة كاملة، أن الأعطال في مكتبه لم تكن قضاء وقدراً، كما أنها لم تقع مصادفة، وإنما هي مفتعلة ومقصودة، وأن الذي أصلحها بهذه السرعة الفائقة هو الذي خربها دون أن يترك لغيره أن يكتشف مكان التخريب.
والتفت الوزير إلى (شمدص) قائلاً بحزم: إني جاد في أمر التسريح ولاشيء ينقذك إلا أن تعترف بالحقيقة، ولم يكن أمام صاحبنا إلا الاعتراف فرد للوزير أنه بحكم عمله كان يحق له الدخول إلى جميع غرف المسؤولين في أي وقت، وكان كلما حدث تغيير في المناصب يعمد إلى إحداث أعطال بسيطة بالنسبة له ولكنها تعجيزية بالنسبة لغيره، وحينما يفشل الآخرون يأتي هو (كرسول إنقاذ) وبهذه الحيلة الماكرة كانت مكانته ترتفع عند الكبار.
وقال الوزير: يقال إنك مهني وبارع وماهر لماذا لم تستخدم مهارتك طريقاً لرفع مكانتك وتعزيز وضعك؟ ما الذي دفعك إلى استخدام هذا الأسلوب الوضيع والحقير؟ ورد (شمدص) وهو يرتجف الخوف والقلق ياسيدي وقال الوزير: والطمع أيضاً.
وهنا أحس (شمدص) أن ريش الطاووس قد هر عن جسمه تماماً، وأحس أنه أصبح عارياً تماماً ومكشوفاً، فألقى بنفسه على يد الوزير، يريد تقبيلها، متذللاً ومتضرعاً كي يبقيه في عمله ليس من أجله لكن من أجل الأفواه الصغيرة المكومة في منزله والتي ستجوع حتماً إذا ما عوقب بالطرد من وظيفته.
وشعر الوزير بالأسف لهذا الرجل الذي فضل الحيلة على المهارة والمكر على الكفاءة والخديعة على البراعة، ولكنه وفاء لوعد أبقاه في وظيفته مطبقاً شعار قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق، أما شمدص فقد شاهدناه يخرج من مكتب الوزير مثل دجاجة منتوفة الأجنحة والذنب، وظل كذلك داخل المؤسسة حتى حملته أعوامه الستون إلى التقاعد.