تساؤلات وجودية ربما حسبها القارىء بداية لقصيدة شعرية. وحقيقة هي ما استهلت به الممثلة المسرحية ميريام غولد شميث عرض (فاروم ..فاروم ,لماذا.. لماذا ) على سبيل تأديته بحثا في المسرح لبيتر بروك وقدم مؤخرا على خشبة المسرح الدائري في المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن نشاطات احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 م . وهو العرض الثاني لبروك المشارك في الاحتفالية بعد الأول (المفتش الكبير ) .
لن نكون في هذا العمل أمام مسرحية تقليدية ذات بداية ونهاية ,بينهما متن ينشغل بإظهار حبكة تتصاعد نحو ذروة ,تعود لتنحلّ شيئا فشيئا إلى نهاية الحكاية المعروضة أمامنا .
إننا أمام بحث حقيقي من أبحاث بروك الساعي دائما لطرح نوع أو قالب مسرحي جديد يبدو أكثر قربا وإدهاشا للمتلقي .. بل هو أكثر صدمة ,وبالتالي هو أكثر فاعلية تنتشل فن المسرح من نمطية ومن أشكال مقولبة غلفت غالبا العمل المسرحي وكبلته فابعدته عن دوره وتأثيره الحقيقي المطلوب منه والذي وجد أصلا لأجله ماهو الدور الذي يفترض أن يضطلع به المسرح ?
وكيف يفترض أن يتبدى لنا ..?
أسئلة كبيرة لن يكفي عرض وحيد للإجابة عنها , إنما هي مسيرة مبدع مثل بيتر بروك تؤكد دأبه الدائم لخلق مسرح جديد متجدد أبدا . فبروك مع ممثلته ميريام غولد شميث يبحثان في (فاروم ..فاروم ,لماذا ..لماذا ) صيرورة الإبداع بالمسرح بالمسرح ,فينتقيان مجموعة نصوص لأهم مبدعي المسرح الحديث هم : أنطون آرتو ,إدوارد غوردون كريغ ,شارل دولان ,ميرخولد ,زيامي موتو كيو معلم مسرح النوالياباني ,بلإضافة إلى شكسبير .
ليكون المجموع نصا يظهر بروك من خلاله (كيف أن صيرورة الإبداع الفني هي طريقة لمتابعة أسئلة وشكوك حيوية في العلاقة المتبادلة ما بين الممثل والجمهور .لماذا ? لماذا ? )
وهكذا فالهم - الهدف الأساسي في هذا العمل هو محاولة إيجاد علاقة مباشرة واضحة ما بين طرفي العملية الإبداعية على المسرح (الممثل والمتلقي ) .وهو الأمر الذي بدا جليا طوال مدة العرض . إذ تحاول ميريام بأدائها جعل هذه العلاقة واضحة بأسلوبها الذي تخاطب به الجمهور دون تكلف ودون أي حواجز مصطنعة ..
إنها على الخشبة ,التي يفضل دائما بروك أن تكون مربعا عاديا لا ينفصل عن الجمهور, توجه نظرها إلى المتلقين وتحادثهم .. تلقي العديد من بذور الأسئلة بين يدي هؤلاء المتفرجين وتطرح أسئلة أخرى صريحة عن كيفية الأداء المسرحي ..إذ كيف لنا أن نبكي على الخشبة ..كيف لنا أن نضحك .. ثم كيف لنا أن نخاف .. وغيرها من الحالات المؤداة على خشبة المسرح .
وكما لو أن الغاية من هذا العرض هو بث المتلقي جرعة .جرأة للمقدرة على طرح السؤال .. جرأة مطلوبة للقدرة على قول السؤال ..
وبمعنى آخر .. تدريب المتلقي ليكون شريكا فعليا ,لا تكتمل العملية الإبداعية إلا بجعله قادرا على النطق بسؤاله كخطوة ثانية وتالية لخطوة أولى ,هي نجاح الممثل في إلقائه لشكوكه وأسئلته ,يتلقفها بعد ذلك المتلقي , فتنوجد عبر هذا النوع من الأخذ والرد ,علاقة متبادلة بين الاثنين وكنتيجة طبيعية لهذه العلاقة ,يصبح من الضروري طرح السؤال (لماذا ? ) وليس بعيدا عن هذه العلاقة بين قطبي الفن المسرحي تتفجر في النص - العرض ,أسئلة من نوع آخر تحفر عميقا بوجدان الإنسان ..
هي من نوع تلك التي ذكرت بداية (ماذا أكون .. لماذا خلقت ) تساؤلات لن يكون طرفاها كما هو الحال في طرفي العملية الإبداعية المسرحية (ممثل ,متلقٍ )
إنما هو طرف واحد .. إنه (المتلقي ) .
صحيح أن السؤال هنا يأتي على لسان الممثل ,ولكن الغرض منه أن يطرحه المتلقي هو نفسه على نفسه ,ليجد الجواب , إن أمكن ,بنفسه أيضا . نوعان من الأسئلة نجح عرض (لماذا ..لماذا ) بطرحها وإثارتها لدى المتفرج ..
أسئلة قادرة على خلق حوار بين (الممثل والمتلقي ) ..وأخرى قادرة بدورها على خلق حوار بين (المتلقي وذاته ) .
إذا هناك أسئلة بإمكانية أو بوظيفة مزدوجة .ميريام غولد شميث أدت وروت في فضاء المساحة الفارغة لا يشتمل إلا على أشياء لها وظيفتها المحددة كما هي عادة بروك باختياره لهكذا نوع من الفضاء المقتصد .رافقها الموسيقي فرنشيسكو آنجيلو على آلة الهانغ السويسرية .وكذلك وجدت شريكة ثالثة جلست مع الجمهور ,شاركت ميريام بشكل بسيط وما كان قعودها مع الحضور إلا نوع من التأكيد على أن في الأمر توطؤا مقصودا , إنه التوطؤ المشجع على خلق الحوار بين الطرفين وكسرا لأي حاجر وهمي بينهما .