في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز عن الأزمة الثلاثية التي تواجه أميركا حالياً والمتمثلة بوجود اقتصاد يعاني من فوضى كبيرة وتقلبات مستمرة, وإدارة تغيرت معالمها كثيراً منذ أن سيطر المحافظون الجدد( على الحكم بمجيء بوش, حيث تحولت إلى إدارة ذات توجهات امبراطورية في الخارج ومنافية للديمقراطية في الداخل, ويتمثل العنصر الثالث من الأزمة في تورط أميركا في الكثير من الحروب والنزاعات في الخارج, لعل أبرزها الحرب في العراق وأفغانستان, وهي حروب, كما يراها بسيفتش, لاتلوح لها نهاية في الأفق, وبرأيه, فإنها تهدد الشعب الأميركي بجميع فئاته ومختلف انتماءاته وقطاعاته.
ولايوجد حل لها في نظره سوى إعادة النظر في الأوضاع الحالية التي تمر بها أميركا, وتصميم مقاربة مختلفة وشاملة لجميع القضايا والمشكلات, ولاسيما تلك المتعلقة بالسياسة الخارجية, يكون عنوانها الرئيسي الواقعية, بدلاً من أوهام القوة وجنون الغطرسة التي جعلتها تظن, كما جاء على لسان بعض قادتها العسكريين, أنها قادرة على خوض حربين أو أكثر في وقت واحد دون أن تتأثر.
ويقدم - بسيفيش- الذي يحظى بتقدير واحترام ومصداقية كبيرة في مختلف الأوساط السياسية الأميركية, رصداً تاريخياً لتلك الأوهام التي حكمت السياسة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الوقت الحالي, ومن تلك الأوهام أنها قادرة بمفردها على قيادة العالم, بل وصنع التاريخ, في ظل ماتملكه من موارد كبيرة وقوة عسكرية مرعبة وتقدم تكنولوجي هائل كفيل وحده بأن يتيح لها التفوق على بقية دول العالم في جميع المجالات ولفترات زمنية طويلة قادمة, ويرى الكاتب أن تلك الأوهام كانت السبب الرئيسي وراء تغير الصورة الجيدة التي كان الكثير من شعوب العالم يحملونها لأميركا, حيث أصبحت تنظر إليها كدولة عدوانية لاتتوانى عن استخدام القوة الماحقة ضد دول صغيرة, أو محدودة القدرة, لأسباب وذرائع واهية عديدة.
أما الواقعية التي يقترحها- بسيفتش- كعلاج لأوهام القوة وشعور الأميركيين بالتفوق, وبأنهم أمة استثنائية, وكوسيلة في الوقت نفسه لانتشالها من المشكلات والمآزق التي تواجهها حالياً, فتتمثل برأيه بما يلي:
احترام حدود القوة, والانتباه إلى العواقب غير المقصودة للسياسات والاستراتيجيات, ونسف الادعاءات حول الاستثناء الأميركي, والتشكيك في الحلول السهلة, ولاسيما تلك التي تقوم على استعمال القوة باعتبارها الوسيلة الأسرع والأنجع لمعالجة المشكلات, ويرى أن العودة إلى هذه المبادىء فقط من شأنها أن توفر الظروف الملائمة لحل مشكلات أميركا العاجلة قبل أن تصبح عصية على العلاج والإصلاح, وكما يرى- بسيفتش- أيضاً أنه رغم كون الأميركيين يدفعون ثمناً باهظاً بسبب قرارات السياسة الداخلية والخارجية الأميركية, فإنهم يتحملون جانباً من المسؤولية حيث يواصلون التسوق الترفي والإنفاق الزائد واستهلاك النفط الرخيص والسعي وراء القروض والرهانات العقارية.
ويشير - بسيفتش- الذي يُعد من أشد المنتقدين لحرب العراق وسياسة بوش الخارجية إلى مفارقة دالة تتمثل في أن دفاع الولايات المتحدة عن الحرية وعن نمط الحياة الأميركية, يجعلها مضطرة لخوض حروب خارجية تؤدي في نهاية المطاف إلى تداعيات وانعكاسات تؤثر سلباً على الحريات ومستوى العيش في الداخل, وذلك على اعتبار أن الحروب التي تخوضها أميركا في الخارج تؤدي إلى زيادة مستويات العداء لها وتجعلها عرضة للهجمات, ما يجعلها مضطرة,كما هو الحال اليوم في الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات يرى البعض أنها مقيدة للحريات الفردية وتتنافى مع التقاليد الديمقراطية, ومن ذلك مراقبة المكالمات الهاتفية والمراسلات الشخصية, واعتقال الأفراد المشتبه فيهم لفترات طويلة دون محاكمة, و يستوي في ذلك الأميركيون ورعايا الدول الأجنبية وإخضاعهم للمحاكمات العسكرية في حالات أخرى.
ويؤكد -بسيفتش- في مقالته أن الامبراطورية الأميركية ستنتهي على نحوكارثي disastrous بسبب إصرارها الأعمى على عدم التغير وعدم الاقتناع بأن قوتها لها حدود.