و أحياناً يقصد إلى الحسّية العاطفية المازوشية الذي يجبرك التعاطف معها و المضي في متاهاتها المتقاطعة التي تشبه الوصول إلى قمة الهلاك أو الهاوية (المنافي و أشياؤها، اسمي، اسمي : المنافي و أشياؤها .. و أنت يا وطني أنت ما اسمك؟ و في أي المنافي تعيش؟ و هل تعود مثلي في العام مرتين إلى الوطن؟ ) يدعوك إلى ثورات في البنية التركيبية لقصيدة النثر و قدام العالم، و استخدام جمالية اللغة طعماً للرداءة و الهشاشة، و رغم ذلك يغير عضيمة على ديار اللغة، يقصف أطفالها و رعاتها و يحرق الأخضر و اليابس دون غمضة قلم :
( فقط، اعتبري نفسك من مفقودات الحرب، القادمة بيننا، و أنا المسؤول عن تدوين اسمك، في لائحة المفقودين و فقط اعتبري نفسك من مفقودات تلك الحروب )
( أصل بعد قليل ) أهو كتاب عن : كيف تضحك شعرياً أو كيف تتقن فن الضحك و أنت تقرأ الشعر أو تشاهد سيركاً متنقلاً بين 309 صفحات و أكثر من 145 مقطعاً السيرك الشعري المثير للشاعر البهلوان محمد عضيمة، فتارة تجده راكباً مزلاج اللغة المرعوبة بدورها من دوار الكلمات المتلاحقة و تارة المخيلة ( الملعونة ) وهي تتهاوى و تترامى في لمسات سحرية عريقة لا تكاد تبصر في النص من كثرة دخان الأسئلة الذي يفتعلها الشاعر هنا و هناك حول حلبة هكذا النصوص، ضارباً المفاهيم القديمة و الحديثة للشعر عرض الميدان كأننا نشاهد الحداثة الشعرية تتخطى حتى كرامتها في اتجاه مجهول يسمونه وراء الحداثة . و ربما يكون أكثر و أكبر من الكرامة كلها، كأن تكون هذه الكتابة عرضاً استثنائياً ليوم ( قيامة الشعر ) للاعب السيرك المرتبك الذي يمشي على الحبل الممدود بين الكلمات و هو يرفع كلتا يديه مرحباً بالهواء و اللاشيء دون أن يحس بثقل اللغة هنا و رطانتها هناك،
يكتب الشاعر محمد عضيمة هذه المرة في جديده الشعري (أصل بعد قليل ) نصاً طويلاً و هو المعروف عنه انه ضد المطولات الشعرية، يكتب منمنمات حوارية مع قارئ شاب أو أي قارئ أخر، حوارية طويلة من جانب واحد و موجه لصديق واحد أو هي بالحقيقة شجار ( صامت ) دون أن تجد الطرفين بسلاح هو تفاصيل الساعات والأيام القليلة التي يقضيها الشاعر مع عوالمه ودواخله وأسئلته الجدلية التي تصل إلى حد الهذر و الملل أو اللامبالاة، عوالم عضيمة هي أكثر من الأحلام و الشكوك و أكثر من الرغبات و مكاشفة الذات حتى أكثر من مواقف سخرية لنظام الكون والأشياء والإنسان، محمد عضيمة شاعر محترف وذكي ويتمتع بالفطرة والتأمل وكون كل ذلك نابعاً من شخصيته وثقافته المتنوعة وأسفاره و قراءاته الغريبة لشعريات مغمورة و جديدة و مختلفة عن ثقافتنا التقليدية، شاعرية عضيمة تسطع من الالتباسات والصور الغامضة وشدة الحيوية في العبارات، شعريته بسيطة لامبالية بما هو مطروح في الأسواق أو ما هو دارج حالياً، تقرأ هذا الشاعر كأن تقرا لشعراء الهواة الذين يصنعون من عواطفهم الصبيانية (كلمات ذات طاقة شعرية ) ليعيشوا بعد ذلك في كلماتهم، يكتب عضيمة شعراً ارتجالياً دون مراجعة أو حتى تصحيح، فكل انطباعات تعرض انطباعاً عن شاعر يستطيع أن يمارس كتابة الشعر أو يضعه جانباً، أو يتخلى عنه برمشة عين، قلما تجد في نصوص (أصل بعد قليل ) على كلمة أنثى أو ما يشبه الحب أو حتى ما يقرّب من كلمة الحزن، مواضيعه محاكاة ساخرة لأحوال الشارع ونوبات حنين متقطعة للذات والأنا أو هي عودة حميمة نحو الكلمات السحرية البسيطة النافرة.
ثمة جدية مخبوءة في الرسائل التي يكتبها إلى صديقه العزيز، جدية غير متوقعة من شاعر وقف طويلاً أمام التوحيديين و ناضل في سبيل الجمال و الاختلاف وصل إلى حد الإلحاد، ومازال هذا القابع خلف متاريس الحزن يدافع عن قصيدة مفرحة بسلاح طفل أخرق مصنوع من الكلمات، كأن محمد عضيمة كبر و بدأ يصرخ بالمارة : شعراء شعراء شعراء .. اهربوا ...
( أصل بعد قليل ) محمد عضيمة - شعر – دار التكوين 2010