شتان بين أن نكون على طبيعتنا، وتصرفاتنا انعكاس لمشاعرنا وبين أن نكون مضطرين إلى المجاملة والمداهنة وصولا إلى النفاق والتزلف والتملق أو باللهجة الدارجة نعمد إلى تمسيح الجوخ والضحك على الذقون والتفنن في ارتداء الأقنعة بما يتلاءم مع المواقف الحياتية ومصالحنا الشخصية.
وقبل الغوص في عالم النفاق وفنونه مطلوب منا أن نقف مع أنفسنا ولو قليلا للتفكير والموازنة بين ما سنجنيه من مكاسب قد تزيد رصيدنا اجتماعيا وماديا وبين ما سنتكبده من خسائر وهذا يدفعنا للتساؤل: هل أصبح النفاق مطلبا اجتماعيا ونوعا من الاتكيت... وما الفرق بينه وبين المجاملة؟
لفتح الأبواب والقلوب المغلقة
حتى تعيش حياة سعيدة ومستقرة ليس أمامك إلا تلك الوصفة السحرية التي تفتح أمامك كل الأبواب المغلقة، وقد أثبتت هذه الوصفة فاعليتها وجدواها هذا رأي رويده موظفة تقول: لتصبح من المقربين من أصحاب الحظوة والقرار في أي مجال حياتي وعملي فما عليك إلا بالنفاق مع رب العمل حتى تضمن البقاء والارتقاء والوصول إلى مبتغاك بسرعة البرق وكذلك في الحياة الزوجية فكلا الزوجين يجد نفسه في بعض المواقف مضطراً للمجاملة والنفاق لتحقيق بعض الغايات والمصالح وهذا أيضاً مطلب ضروري للتعامل مع أهل الزوجين، فالتقرب منهم لا يتم إلا بقليل أو كثير من النفاق الذي يضمن الدخول إلى قلوبهم.
بعيدا عن المتاعب
وتوافقها الرأي دلال ربة منزل فحتى بالعلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة فالنفاق مطلوب لعلاقات جيدة بين الأخوة وأجواء عائلية خالية من المشاحنات والتوترات ولتحقيق بعض المآرب المادية أو المعنوية وكذلك الحال في العلاقات بين الجيران والأقارب فويل لمن يكون صريحا أو يخالف رأي الجماعة أو صاحب السلطة ضمن الأسرة أو المحيط الاجتماعي وإلا فإنه سيكون منبوذا مكروهاً مغضوباً عليه.
وحتى تستمر الحياة بشكل أفضل برأي الكثيرين هناك عدة أدوار علينا تمثيلها أينما توجهنا، هذه قناعة توصلت إليها ريم مهندسة: من المؤسف أن تتحول يومياتنا الحياتية والعملية إلى مشاهد تمثيلية نحن أبطالها منا من ينجح بأدائها ويتفوق ويصبح ناجحاً بارزاً ضمن دائرته الاجتماعية في حين يفشل البعض وبالتالي يخسر الكثير من المكاسب، وفي نهاية اليوم نعود إلى أنفسنا بعد يوم شاق من النفاق وادعاء ما لا نشعر به تجاه الآخرين لأننا لا نجرؤ على ذلك وإلا سنجلب لأنفسنا المتاعب.
من ضرورات الحياة المعاصرة
فهل أصبح النفاق وما ينضوي تحت لوائه من مسميات كالمجاملة والمداهنة والتدليس من ضرورات الحياة وأدواتها، يقول زاهر صاحب شركة خاصة: بالفعل أصبح وقتنا الحالي وطبيعة حياتنا العملية السريعة والمعاصرة تتطلب قليلاً من الصراحة وكثيراً من النفاق والكذب وطبعا من لا يتقن فنون النفاق فهو من الخاسرين فمن يجرؤ على الوقوف بوجه رب عمله أو أستاذه أو المسؤول عنه ليعارضه أو يخالفه الرأي، فاللنفاق مكاسب إن أتقن وخاصة في حال غياب الضمير، أما بالنسبة إلي فأنا غير مضطر لذلك لأنني صاحب العمل ولكن ربما ألجأ إلى المجاملة في التعامل مع الزبائن والعملاء حتى أضمن استمرارية تعاملهم معنا وتحقيق مزيد من المبيعات والأرباح.
بوجهين ولسانين
من المؤسف حقاً بعض المظاهر الاجتماعية التي نشهدها بشكل يومي فهناك من يملك وجهين ولسانين لزوم التواصل مع الآخرين تقول منار موظفة: مضحك مبكي ما نراه في حياتنا العامة، فالغيبة والنميمة والطعن بالظهر تسود أجواء العمل وحياتنا الاجتماعية ومؤلم جداً عندما يتحول المديح والغزل والاعجاب في حضور الشخص إلى سخرية واستهزاء بمجرد غيابه والفاصل دقائق معدودة تتبدل المشاعر والآراء.
الصدق والتصالح مع الذات
وبرأي مخلص ناصيف موظف ترتسم ملامح النفاق بأبشع صوره عندما يصدق المنافق الأكاذيب والادعاءات التي حاكها وصنعها بيديه وهذا يعود إلى التربية الأسرية والتنشئة الاجتماعية فإن كانت قائمة على الأخلاق والمثل الجيدة فإنه سيكون بعيداً عن عالم النفاق، تلك الآفة التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية وعندما يكون الانسان متصالحا مع ذاته وصادقا فمهما لبس أقنعة فإنها ستكون هشة سرعان ما تسقط، وما يفاقم هذه المشكلة الاجتماعية تلك الآذان الصاغية لهؤلاء المنافقين رغم معرفتهم بكذبهم وسعيهم لتحقيق مصالح شخصية.
اللجوء إلى الصراحة
والمستنكرون للنفاق ينادون بضرورة اللجوء للصراحة في التعامل مع الآخرين، يقول عبد الرحمن شامية طالب هندسة مدنية: أستطيع ان اعيش حياتي العائلية ومع أصدقائي المقربين بصراحة وشفافية بعيداً عن التملق والكذب، فالصراحة مطلوبة والذي لا يتقبل صراحتي لايستحق صداقتي والذي يكن لي الحب سيتفهم هذه الصراحة وهي لن تجعلنا نخسر الذين نحبهم ولكن المجاملة قد تكون مطلوبة مع المدرسين في الجامعة ومع الفتيات اللواتي يرغبن بسماع كلمات الإعجاب والمديح.
يضعف المنظومة القيمية وإنتاجية العمل
يقول خبراء العلاقات العامة والتفاهمات الانسانية:«الموهبة أمر عظيم ولكن المجاملة أعظم» فإن كان هذا حال المجاملة برأي المدافعين عنها لضرورتها في بث الدفء بالعلاقات الاجتماعية فماذا عن النفاق.. وما الفرق بينهما؟
يقول الدكتور طلال عبد المعطي مصطفى مدرس في كلية الآداب - علم اجتماع: النفاق ظاهرة مرضية تسود الكثير من المجتمعات وخاصة العربية منها فكلما غابت المؤسسات والقانون كلما ارتفعت نسبة النفاق وخاصة الوظيفي وهذا نابع من طبيعة بنية المجتمع فكلما كانت البيئة الاجتماعية يسودها جو من الشفافية والحوار انخفضت نسبة المنافقين، فبغياب الشفافية تستفحل هذه الظاهرة وتفتك بالمجتمع وبالتالي تضعف المنظومة القيمية التي تضمن استقرار المجتمع وتماسكه وأيضا تضعف إنتاجية العمل بالمؤسسات الوظيفية وتتراجع الكفاءة والموضوعية كما تؤدي إلى تراجع الثقة بالنفس والقدرات الشخصية.
وضمن دائرة العلاقات الأسرية والاجتماعية عادة ما يكون هناك نوع من التدليس وبيع المشاعر وسيادة الكذب ففي البيت لايكون هناك جو ديمقراطي فالزوجة والأبناء يدلسون للأب كونه يمثل السلطة، بينما في غيابه يتأففون ويتذمرون من تسلطه وتحكمه وبذلك نتعلم النفاق ونكتسبه بدءاً من البيت ثم المدرسة والمؤسسة الوظيفية ليكتسح النفاق ويغزو كل مجالات حياتنا.
المجاملة بريئة
وعن الفرق بين المجاملة والنفاق يقول د.مصطفى: المجاملة ظاهرة اجتماعية بريئة ومقصودة لذاتها وليس لغرض أو غاية وهي ضرورية لزيادة مساحة التفاهم والاحترام بين أفراد المجتمع كما أنها تقليد ظرفي تحكمه المصادفة ولايتصف بالديمومة ولها طابع شخصي غير مؤذ وليس لها نتائج مؤذية على المجتمع وتكون بحدود معينة، بينما النفاق يسعى لتحقيق مآرب ومصالح شخصية قد تؤذي الآخرين وتضر بالمجتمع والخطوة الأولى لعلاج هذه الآفة تكمن بالكشف عنها وتعريتها وتطبيق معايير الكفاءة والشفافية وهذا سيؤدي إلى التخفيف منها لأن إلغاءها صعب، واتساع دائرة انتشارها حقيقة واقعة ترتبط بوجود الإنسان.