فقد أوقف هذا الفيلسوف الكبير جانباً كبيراً من اهتماماته على دراسة الضحك أو التأمل فيه وحوله كذلك. لكن دخول أفلاطون ميدان الضحك لم يكن مبعثه التبجيل لهذه الظاهرة أو الإجلال لها, أو حتى السعي من أجل الكشف عن جذور التذوق الخاصة بها, بل كان من باب التحذير منها. لقد وضع أفلاطون في حسبانه, على نحو خاص, قدرة الضحك على تخريب الوضع الراهن- أيا كان- أو إفساده بكفاءة عالية. وكذلك قوته الهائلة على تحويل خطوط الدفاع القوية للسلطة إلى مجرد أبنية هشة من قش.
إن الضحك في رأيه كان أشد الخصوم المناوئة للسلطة, فبضحكة واحدة منه يكون كل مواطن, وبصرف النظر عن منزلته, حاملاً لقوة فعالة قادرة على جعل الأشياء تتداعى بعيداً أو تسقط متهاوية هنا وهناك.
يقوم الضحك الساخر, في رأي أفلاطون, بدور (محكمة القانون) التي تصدر أحكامها الخاصة بشكل مباشر وحاسم. إن الضحك لديه يبدو أنه يعيد كتابة (القوانين) بشكل خاص ومباشر, ومن ثم لا يمكن أن تتحمل (الجمهورية) مثل هذا التهديد.
والتحكم في انفعالات الناس- في رأي أفلاطون- أكثر أهمية من التحكم فيهم أنفسهم, ولذلك فإن الضحك, كانفعال مهم, وفي ضوء ما ينبغي أن يقوم به حكام (الجمهورية) ينبغي ألا يتجاوز حده وإلا انقلب إلى ضده, أي إلى ضد هؤلاء الحكام.
كتب أفلاطون عن الضحك في (الجمهورية) كتابه الأساسي حول المجتمع المثالي, وفيه قال إن مخاطر الضحك تكمن في التطرف, فالتطرف أو الإفراط, أيا كان نوعه في أي سلوك وفي أي انفعال يؤدي إلى فقدان المرء لتحكمه في نفسه, وفي انفعالاته, وإن الضحك المفرط أو المبالغ فيه هو أمر شائن منكر على نحو خاص, ذلك لأن الاستجابات التي يقوم هذا الضحك بتوليدها غالباً ما تؤدي إلى العنف, وإنه حتى قبل أن يصل الموقف إلى مستوى العنف فإن الضحك المسرف أو المبالغ فيه, كثيراً ما يؤدي إلى تحول الإنسان العادي أو المواطن الصالح إلى واحد من أقل الشخصيات جاذبية وأكثرها إثارة للسخرية والاستهجان في المجتمع, ألا وهي شخصية المهرج أو المضحك, حيث يظهر هذا المهرج أسوأ أنواع السلوك, ويعمل على تقويض أسس المشاعر والعلاقات الرصينة المبجلة في المجتمع.
ففي لحظة واحدة, ينطلق هذا الضحك, غير المهذب مع ما يصاحبه من سخرية, أو سباب, أو تجاوز في الألفاظ, فيهتز الوقار والاحترام, ويندفع العدوان, وهو سلوك لا يليق- البتة- بمواطني الجمهورية(2).
هوامش:
(1) أفلاطون: أحد فلاسفة الثلاثة الإغريقيين الكبار: سقراط وأرسطو. تعرف فلسفته بالمثالية, وضحها في محاوراته مع تلاميذه, ومن أهم كتبه (الجمهورية) وكان وثيق الصلة بسقراط:(429-347 ق.م).
(2) عن كتاب (الفكاهة والضحك) تأليف د. شاكر عبد الحميد.