ليتمكن من الاطلاع على اكتشافات عديدة تتناقض مع أفكاره التي ذكرها في مؤلفه,هنا في دمشق يجد المسلمين والمسيحيين يصلون جنباً إلى جنب, وهذا هو العمق الحقيقي لتآلف الحضارات..)
بهذه المقدمة بدأ الكاتب الألماني(فيرنر بلوخ) مقالته التي استوحاها بعد زيارته إلى سورية, ونشرها في صحيفة ألمانية في عدد 10 شباط ,2005 وكانت تلك المادة الصحفية انعكاساً شفافاً للواقع الاجتماعي الذي كان برأي الصحفي الزائر هو ما يميز الحياة العامة في دمشق عاصمة الدولة الأموية التي استطاعت أن تحافظ على روح الحضارة الإسلامية, لكن هل يحتاج الأوروبيون إلى زيارة سورية لكي تتولد لديهم القناعة بأن الإنسانية كل موحد ويجب التعامل مع الآخر من هذا المنطلق, ليكتشفوا بأن فكرة صراع الحضارات هي اختراع عنصري بامتياز, ومن ثم يعزفوا عن الإساءات المتعمدة لحضارات وديانات الشعوب الأخرى? أم أن عمليات تشويه الحقيقة التي يمارسها كتاب وصحفيون مأجورون من قبل قوى عنصرية متطرفة بهدف اختلاق عناصر الخلاف بين الأديان وتأجيجها, وبالتحديد بين المسلمين والمسيحيين? والسؤال الأهم: من الجهة المستفيدة من هذا التأزم المفتعل, التي تقف خلف نشر الأفكار العنصرية وطرحها بأشكال وعناوين متنوعة, وتقوم بأفعال دنيئة تحت عباءة حرية الرأي والتعبير وتساهم في توسيع ساحة الخلاف حتى تصل إلى مستوى الفتنة, في أوقات حساسة ومدروسة بدقة?.
قد تكون الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها معروفة سلفاً, ولكن لا أحد في العالم العربي الحر يستطيع البوح بها مهما كانت مثبتة لديه, لأن يد الشر والأذى ستلاحق كل من يجرؤ على قول الحقيقة وقد وصف هذه الحالة النائب السابق في مجلس الشيوخ الأميركي بول فندلي في كتابه الشهير(من يجرؤ على الكلام), لاسيما وأن تحديد صانعي ومروجي الأفكار العدوانية والتحريضية سيشير حتماً بأصابع الاتهام إلى المنظمات الصهيونية التي تعمل بحرية كبيرة في الدول الغربية, وهي مدعومة من قبل قوى سياسة عليا في هذه الدول وتربطها مصالح خاصة, وتقيدها علاقات تكون في أغلب الأحيان مشبوهة وتحمل في طياتها فضائح, تلزم قيادات الدول الكبرى بالانصياع لرغبات هذه المنظمات مقابل التستر على كل تلك الفضائح, وتبقى حرية الرأي والتعبير للأفراد مصانة إلا إذا مست بشكل من الأشكال المنظمات الصهيونية أو اليهودية, فتصبح عندها معاداة للسامية وتقوم الدنيا ولا تقعد ويتم معاقبة من تسول له نفسه المساس باسرائيل وهذا ما حصل لكتاب أوربييين كبار, عندما فضحوا كذبة المحرقة النازية على يد النازية في ألمانيا, حيث تمت مقاضاتهم وما الرسوم التي ظهرت في بعض الصحف الدانماركية والنرويجية التي تسيء إلى الرسول الكريم محمد(ص) إلا حلقة من حلقات إشعال الفتن بين الشعوب الإسلامية والشعوب الغربية, من ضمن الخطة المتعمدة لتطبيق نظرية الفوضى الخلاقة التي تم رسمها لإعادة إنشاء الخارطة العالمية بما يتلاءم والطموحات الاستعمارية الأميركية.
لقد شكلت هذه الرسوم صدمة مؤلمة لمشاعر المسلمين في جميع أنحاء العالم, لا وقت ردود أفعال غاضبة, تمثلت بمظاهرات واستنكارات وصلت في بعض الأماكن إلى حد التخريب والفوضى وهذا أمر خطير ويفتقر للوعي في معالجة الإساءات وهي لا تعبر عن طبيعة الدين الإسلامي الذي يدعو إلى المحبة والتآخي, لكن ما زاد الطين بلة أن بعض وسائل الإعلام في دول أوروبية أخرى أعادت نشر هذه الصور بهدف العودة بالعلاقة الغربية الإسلامية إلى قرون ماضية كانت تتصف بالصراعات الدينية, التي أدت إلى حروب كارثية, وكانت قد تناستها الشعوب ولا تريد لها العودة, وإن التاريخ الحديث عرف مثل هذه الدعوات خاصة بعد وصول التيار اليميني المتطرف إلى رأس هرم الإدارة الأميركية, ممثلة بصقور البيت الأبيض الجديد الذين يرون في الحروب الطريق الأفضل لتحقيق سياستهم, وإن زلة اللسان التي صرح بها الرئيس الأميركي جورج بوش حول عودة الحروب الصليبية, تخفي وراءها نزعة فكرية وثقافة عدوانية متأصلة عند هذا التيار, وهذا ما لاقى رفضاً واستهجاناً من قبل رجال الدين الإسلامي والمسيحي على حد سواء, وكان قد ذكر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في كلمته التي ألقاها في دمشق عندما صلى طالباً السماح عن الحروب الصليبية, أنه (لا يسمح لأي دين أن يكون السبب لقيام حرب من الآن فصاعداً).
هذه دعوة رسولية جلية لرفض ما يسمى صراع الحضارات, وعدم استخدام التنوع الديني في العالم كأداة لاصطناع الحروب والخلافات بين البشر, وهي في الوقت ذاته رسالة محبة وتعايش بين أتباع الديانات السماوية جميعاً.
إن ماحصل في الدانمارك والنرويج وفرنسا من إساءات متعمدة بنشر هذه الرسوم التي تنال من أعظم المقدسات الدينية عند المسلمين, تعبر عن فكر تآمري يهدد إلى خلق الفتن بين البشرية, وإن المطلوب من حكومات هذه البلدان ألا تبقى في موقع المتفرج على ردود الأفعال الشعبية التي لحق بها الأذى النفسي والروحي نتيجة نشر هذه الرسوم, وعليها أن تتخذ مواقف حاسمة من هذه القضية, ليس في الشجب والاعتذار فحسب, بل عليها أن تحدد مسؤولية الصحف والأشخاص الذين قاموا بنشر هذه الرسوم, ومعرفة الجهات التي تقف خلفهم وتحميلهم المسؤولية القانونية والأخلاقية لتصرفاتهم المشينة, ويجب أن تكون العقوبات شديدة, من أجل عدم تكرار مثل هذه الأعمال العدوانية, لا سيما وأن أوروبا ليست عدواً للعرب والمسلمين, وإن الشعوب العربية تقدر عالياً النجاحات الحضارية والعلمية والثقافية للانفتاح على العالم الإسلامي وقبوله كشريك في بناء الحضارة الكونية, وعدم توجيه الاتهامات غير المبررة, وإطلاق المؤامرة تلو المؤامرة لتخريب محاور الالتقاء والحوار بين الدول الغربية والعالم الإسلامي, التي تؤدي إلى ردود أفعال غير واعية, ويصعب ضبطها, وغالباً ما تؤدي إلى فتح الباب واسعاً أمام نشوء تيارات وقوى مضادة تحظى برعاية الفكر الأصولي التكفيري.
إن ردود الأفعال الشعبية الرافضة والمستنكرة التي أتت من المسلمين والمسيحيين المؤمنين بوحدة الإله وهي محقة وطبيعية, لكنها يجب أن تعبر عن الوجه الحضاري للإسلام والمسلمين, وأن لا تتعدى الشجب والاستنكار والمقاطعة الاقتصادية لتشكل عوامل ضغط على حكومات هذه البلدان, مع ضرورة استمرار المطالبة بمحاسبة هؤلاء الأشخاص الذين أساؤوا إلى شخص النبي الكريم (ص), ومعاقبتهم على أفعالهم العدوانية, وذلك عبر الأ ساليب الحضارية التي تعطي نتائج أفضل, بعيداً عن الأحداث التخريبية , وأعمال الشغب التي تنعكس سلبياً على سمعة الدين الإسلامي والمسلمين, لا سيما وأن الدين الإسلامي يدعو إلى المحبة والسلام, وهذا يستدعي من المنظمات الإسلامية والعربية, خاصة منظمة المؤتمر الإسلامي أن تقوم بعمل جماعي, يعبر عن رأي موحد للمسلمين في وجه مروجي الأفكار العنصرية, التي تحاول الإساءة إلى الدين الإسلامي وإلى رمزه الأعظم الرسول الكريم محمد (ص), وإن عملاً جماعياً منظماً من قبل وسائل الإعلام الإسلامية والعربية يجب أن يعيد قطار الحوار بين العرب والمسلمين من جهة وبين العالم الغربي من جهة ثانية إلى سكته الصحيحة, وأن يتم تطوير هذا الحوار إلى التعاون والتآخي بين شعوب العالم قاطبة, وعلى الجهات الرسمية من كلا الطرفين ألا تألو جهداً في هذا الاتجاه, وألا تترك الأمور تسير حسب رغبات الشارع الذي تسيطر عليه ردود الأفعال العاطفية حيث لا مكان للدبلوماسية!!
Email.m.a.mustafa@mail sy.