تعيدنا هذه الأسئلة التي تتوالد انطلاقاً من أفق العلاقة (الواهية أوالمنعدمة.. أو المتوترة) المشوبة بقلق معرفي نبيل, الى سجال قديم جديد يتلمس الوشائج الخفية بالبصر والبصيرة لعلاقة الشعر بالفلسفة والوجود والإنسان بدءاً.. في هذا السياق الثقافي بامتياز يأتي كتاب الفلسفة والشعر للاسبانية ماريا ثامبرانو, لتضيء بفكرها وخبرتها الفلسفية, كإطار معرفي, وبأدواتها التحليلية منهجاً تضع لبوساً له محبة عميقة للكلمة والفكرة, يقرأ ممكنات العلاقة الملتبسة بين الشعر والفكر, وما تؤول إليه ضرورة كل منهما.
صدر الكتاب بطبعته الأولى عن دار الرواد-بيروت وقدمه الى العربية المترجمان: محمد البخاري بن سيد المختار, ود. كارلوس باروناناربيون.
ثمة جهد لافت قدمه المترجمان ينطوي في دلالته الحاسمة على تقديم صورة نقد ثقافي مغاير كحصيلة أولى لما ولده منفى ثامبرانو, ومعها سنتعرف على المنبع الفلسفي والروحي للفلسفة والشعر, والبراهين الدالة على نقد ثامبرانو الثقافي للغرب (المحكوم بفقدان الروح والانسان معاً), كما أسباب الأزمة بين الحياة والعقل بين الشعر والفلسفة وتأثير الفكر الأوروبي على الفكر الاسباني منذ بداية القرن العشرين وبحث ماريا ثامبرانو للمصالحة ما بين الشعر والفلسفة بمفهوم هو العقل الشعري والنظرة التكاملية لحاجات الانسان الحميمية والدينية,بحسب ما تحيلنا إليه المقدمة الهامة التي وضعها وصدر بها الكتاب (خيسوس مونيوسانث) كمدخل ضروري لاستقراء فكر ثامبرانو بطابعه الجدلي الحواري المثالي, بحثاً عن (قارىء ممكن) ومحاورته باستفاضة دافئة حول التأسيس المفهومي في فكر وشعر, والانتباه الى مقام العقل ومكانته, تقول: (لا نعثر على الانسان الكامل في الفلسفة, ولا نعثر على كلية الانسان في الشعر) في البدء كان العقل نعم ولكن.. تجسد العقل وسكن بيننا مليئاً بالرحمة والحقيقة) وفي الشعر والأخلاق تحاورالإرث الأفلاطوني, والأرسطي, تقول ثامبرانو:(ألا يوجد شيء للشاعر.. أيمكن أن نطالبه بشيء ليس لديه, شيء هو الحقيقة لدى رجل العدل) وتضيف: عطاء الشعر ليس ملكاً لأحد, بل هو للجميع فلا أحد جدير به والكل يعثرون عليه لتصل الى التصوف والشعر مستمرة بذلك الجدل بين الشاعر والفيلسوف, وتقارب الشعر والميتافيزيقيا, متساءلة: هل كان من الممكن في أيام سعيدة أن يحوز الشعر كل ما تعرفه الفلسفة.. كل ما أخذته في ابتعادها وشكها لتحديد حلمه بصورة واضحة تذهب الشاعر والأكاديمية بفعل الايمان وحده لتساءل سلطة الفكر الفلسفي الذي سنجد أنها اختارت من خلاله, أسماء دالة كسقراط, وأفلاطون وكيركجارد ونيتشة وهيدغر, وفي مستوى آخر تستحضر شعراء كبارا أمثال مالارميه وبول فاليري وبودلير وسواهم, لتدافع عن الضرورتين: الشعر والفكر برؤى ذات نزعات صوفية, لتصل الى نتيجة حاسمة بقولها: الشعر هو انبثاق الروح من حدودها, هو انفتاح الوجود في تلك المقاربات الفكرية, بما توفرت عليه ثقافة المنفى, ثمة دفاع ذكي ليس عن الشعر فحسب وإنما عن الكلمة و(تجريمها) واستعادة لماهية الوجود, بوساطة زحزحة واعية للبديهيات والتحليق الدائب في سماء الفلسفة والشعر, وعي التناقض, والتكامل والرغبة في التكامل, ولعل ما سيلاحظه القارىء من ترميزات وايحاءات في متن النصوص وسياقاتها,ما يقف به على أرضية الكتاب وخلفيته التي تشكل معطيات فكر كلي, رغم تشاؤم الارادة وتفاؤل العقل, ينفتح على تراث انساني متعدد الاتجاهات والمنابع والأصول, وإن اتكأ على (يوتوبيا) غائبة, لكنها في الجوهر مثاقفة جادة, بمنهجها الجمال الخالص والروحاني كذلك, لعلها تجد نظيراً لها فيمن يرى بأن (الشعر هو الفكر) وأن (الشعراء العظام هم المفكرون).