بين سورية والاتحاد السوفياتي سابقاً لبناء سد الفرات بعد أشهر قليلة من التاريخ مضينا إلى الطبقة : ثلاثة مهندسين , حديثي التخرج , كلفنا المهندس ابراهيم فرهود , مدير عام مسار خط الفرات,أن نكون نواة فريق التحريات للعمل , مع الخبراء السوفيات في اختيار مسار خط نقل الطاقة بين حلب والطبقة .. هذه الأخيرة كانت مجموعة بيوت طينية وحوارية , متناثرة , لايتجاوز عددها أصابع اليدين .. ومساحات شاسعة جرداء , صفراء شاحبة ورمادية .. وبعيداً في الجهات الأربع , لاترى العين أثراً للون الأخضر ..
كانت البداية الحقيقية لبناء السد:
اليوم , عندما نلتقي , نسترجع تلك المرحلة الأخصب في حياتنا المهنية والشخصية والسياسية , ونقارن بين ماكنا نحلم به , وبين ماتحقق على الأرض , لم يكن ينمو أمام أعيننا: مجرد منشأة فريدة , بمقاييس بلادنا بل أمر أبعد من ذلك : سورية جديدة , قادرة على التقدم سد الفرات يقف منذ منتصف السبعينات أحد أهم المشاريع الهندسية في التاريخ السوري .. وربما العربي بيد أن أحلامنا راحت تتسرب وتضمر هل كانت غير واقعية , أصلاً ? أتمنى , أحيانا لو نجري جردة حساب , لما تحقق : في حجم الطاقة الكهربائية المنتجة , في مساحات الأراضي المستصلحة , وفي مردودهما الاقتصادي والاجتماعي .. ونقارن كل ذلك , بماتضمنه الكراس الأزرق الصغير , الذي قرأناه , بفرح , ونحن نستعد للذهاب إلى الطبقة ..
لماذا لاتتراكم خبراتنا الهندسية ?
بيد أن جردة الحساب الأهم , هي : كيف تراكمت الخبرة الهندسية السورية ? لماذا لم نستطع خلق هندسة سورية موصوفة في قطاعات معينة , كبناء السدود واستصلاح الأراضي , أو إشادة عمارة سورية حديثة , بروج عربية / إسلامية , وربما تطوير الصناعة النسيجية ?....
يضغط علينا السؤال ونحن نعبر شارع ( الثورة ),أحد أقبح مراكز المدن التي بنيت , في نهايات القرن الماضي , على أنقاض جزء من مدينة قديمة , يضغط السؤال , ونحن ننتظر منذ عام ,1984 إنجاز بناء جامع ومجمع يلبغا المطلين على مرجة دمشق التاريخية .
وقبله استغرق بناء المسرح القومي ( مع زرع الأوتاد البيتونية , في أساساته ) مايقرب من ثلاثين عاماً ? أي أكثر من ضعف المدة التي استغرقها بناء سد الفرات ..
السؤال العنيد فرض نفسه علينا يوم اجتمعنا : مجموعة من مهندسي سد الفرات , وزملاء آخرين , مساء / 2/ 7/ 2002م/ , لنناقش , دون تكليف من أحد , وبدوافع هندسية وسياسية ,شبه غريزية , الأسباب المحتملة للإنهيار سد زيزون كان بيننا وزيرا الري السابق والحالي
ووزراء ومدراء عامون واختصاصيون نافذون ..
حصلت وتحصل انهيارات في سدود ومنشآت متنوعة , في بلدان عديدة ,بما فيها تلك الأكثر تقدماً يتحدث هذا لفعل كوارث طبيعية أو نتيجة أخطاء بشرية .. ولكن كيف نترك تجربة قاسية , بهذا الحجم , تمر , دون تأسيس رؤية نقدية عميقة و تدرس علاقة الانهيار بمنظومة العمل الهندسي / الإداري , بكل عناصرها ?
سألت صديقي الدكتور أحمد الغفري رئيس تحرير مجلة المهندس العربي , التي تصدرها نقابة المهندسين (وهي المجلة الهندسية السورية شبه اليتيمة ) : هل نشرتم بحثاً أومقالة حول انهيار سد زيزون ? عندما أجابني بالنفي , تمنيت لو أسأل زملاءنا المدرسين , في كلياتنا الهندسية : كم أطروحة تخرج أنجزها زملاؤنا , باحثين في العوامل الهندسية المختلفة للانهيار? لاأتوقع جواباً , يختلف عما سمعته من الدكتور الغفري ....
يمكن الاستمرار في جلب أمثلة أخرى , عديدة , أمثلة هي وراء المرارة التي نحس بها ونحن نشهد تراجع الهندسة السورية , رغم العدد الكبير من الكليات الهندسية القديمة وتلك التي تفتتح , حديثاً وهاهو عددنا يصل , قريباً إلى مائة ألف مهندس ..
هل تذكرون أنه تم , في يوم من الايام , تكريم مهندس سوري , على المستوى الوطني, كما يحصل (حمداً لله ) مع الأدباء والفنانين ..? تعرض زملاء عديدون لملاحقات قضائىة , لأسباب تتعلق , ربما , بتقصير في الممارسة المهنية , ولكن لماذا لا يكرّم آخرون , ممن كان لجهودهم دور في مشروع إشادة هندسة سورية , لم يكتمل .. مهندسون كبار من أمثال :
المرحومون صبحي كحالة وابراهيم فرهود ( كلاهما لم ينالا ما يستحقانه من تقدير الوطن وأبنائه ) والزملاء الاعزاء : زهير فرح وعدنان عزوز ونبيه سعادة وآخرون , ممن قادوا , قبل أربعين عاماً , بناء سد الفرات ?وغيرهم كثر ممن عملوا في تنفيذ مشاريع هندسية هامة .
يوم سمي مديراً عاماً لمؤسسة استصلاح الاراضي , من خارج الوسط الهندسي ( في النصف الثاني من السبعينات ) اعتقدنا ان مثل هذا الخيار هو الذي .لن يسمح بتراكم الخبرة الهندسية..
بيد ان أكثر المؤسسات والمشاريع الهندسية ووزارات اختصاصية عديدة , ومجالس المحافظات والمدن .. يقودها , منذ سنوات : مهندسون , بل ان ثلاثة مهندسين , كانوا على رأس مجلس الوزراء , أكثر من نصف الفترة المنصرمة , منذمطلع السبعينات .. فهل حفّز هذا الواقع نشوء هندسة سورية , تتألق في محيطها ?كما هو الحال في مصر والأردن ولبنان والعراق و ..
ربما لدى الكثير من المواطنين السوريين , مهندسون وغير مهندسين , جواب أو أكثر على التساؤل الكبير : لماذا لا تتراكم خبراتنا ? ليس فقط في الهندسة , وإنما في جوانب أخرى من حياتنا : في الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام والرياضة و هل التعليم أحسن حالاً ..?
في الاجابة على التساؤل : لا بد أن نضع اليد على آليات تنظيم مجتمعنا وإدارة شؤونه وصياغة خطط تنميته وانتقاء قياداته , وهي أمور سياسية / اجتماعية بامتياز ..
هي مسؤوليتنا نحن المهندسين:
بيد أن مسؤولية أساسية تقع علينا , كمواطنين أولاً وكمهندسين , ثانياً : لقد تقلص طموحنا بفعل حالة السلبيةالمتعمقة , يوماً بعد يوم . والهندسة كنشاط إبداعي لا تتفتح وتزهر دون طموح .. لقد جفف العمل الوظيفي , ( من خلال العلاقات الاوامرية التي تسوده ) , أرواحنا بينما ضاق أفقنا الهندسي بفعل ممارسة المهنة , في مكاتب هندسية خاصة , تعيش على رخصة بناء .. ( لم ننجح , حتى الآن , في تكوين تجمع هندسي كبير ومتطور , يعمل خصوصاً في مجال الدراسات والإشراف والتدقيق ) .. وأكمل التنظيم النقابي , بعد ان تحوّل الى مؤسسة شبه حكومية , محاصرة تطلعاتنا .. بعيداً عما يتسم به تنظيم ولد ليخدم مصالح أعضائه ( ليس على نحو ضيق ) وأيضاً : مصالح المجتمع ..
لدينا الكثير مما نفعله , لنستعيد جزءآً من شباب الهندسة السورية وروحها السائدة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي , ربما نباشر حواراً في المستويات النقابية والسياسية , حول مواضيع هي , في جوهرها : وطنية شاملة ولكنها تتفرع , في محيطنا الهندسي , على النحو التالي : - كيف نطور مضمون مشاركة المهندسين في شؤون الهندسة والإدارة والاقتصاد والسياسة .. هل أثبتت الكيفية الراهنة لاختيار القيادات الهندسية , على المستوى الإداري , جدارتها?
وعلى المستوى النقابي : هل تستمر الدرجات الانتخابية العقيمة ( وحدات هندسية في المؤسسات الحكومية ..) أم نعود الى الانتخابات المباشرة على مستوى كل فرع ?
لا يجوز ان نبقى ندير حياتنا , تحت وطأة كابوس مطلع الثمانينات . ومن غير المنطقي أن يحتاج فريق ما , الان , لاتكاء مستمر على بنود سياسية خاصة , بعد ربع قرن , من تلك الظروف التي أوجدت تلك البنود ..
بإمكاننا أ ن نخلق تجربة تنظيم نقابي متجدد , تنعكس فيها الدروس التي استخلصناها , جميعنا من تلك الحقبة القاسية في تاريخ النقابات المهنية السورية ., لقد نشأت نقابة المهندسين كتنظيم ديمقراطي مهني وهو ما ينبغي استلهامه من جديد ...
عندما يلزم المهندسون , قانونا بالانتساب للنقابة , كواجب يتيح لهم ممارسة مهنتهم , فمن شروط المواطنة العادية , أن يتمتعوا , في نقابتهم , بحقوق متساوية.
- أليس ضرورياً : تشكيل جمعيات أو روابط هندسية اختصاصية , في إطار النقابة ?
عندما نرى حقيقة أن عدد المهندسين المساحيين ( على سبيل المثال ) يتجاوز , اليوم كل ما كان في فرع المنطقة الجنوبية , من مهندسيين في جميع الاختصاصات , عام .1966
نوقش تأسيس هذه الجمعيات الهندسية , في مراحل سابقة , بيد أنه سيكون من غير العقلاني أن نستمر , كما نحن عليه الآن , في تجمع هندسي واحد , يضم اختصاصات بعيدة عن بعضها , دون أن يكون في هذا التنظيم الموحد ما يسمح لكل اختصاص أن يأخذ فرصة كاملة , هندسياً و مهنياً.
أعتقد أن الاختصاصات الضيقة و حتى الأوسع ( من حيث عدد المنتمين لها ) لم يعد يلائمها تشكيل لجان اختصاصية , يعينها مجلس الفرع و يختار لها رئيساً , بينما يسمح للأعضاء ( المعينين أصلاً ) انتخاب نائب الرئيس!
( لكي يتمتع الاعضاء بهامش الديمقراطية المتاح .. ) يمكن أن نستأنس بتنظيم اتحاد الكتاب العرب , الذي يضم جمعيات متنوعة الاختصاص , ( جمعية الشعر , جمعية الترجمة , جمعية البحوث .. الخ ) ينتخب أعضاؤها , مباشرة , رئيس الجمعية و مقررها..
تدريجياً , ينبغي أن تغدو هذه الجمعيات الاختصاصية : الأساس في ممارسة النشاط النقابي و المهني , وتتحول النقابة الحالية إلى اتحاد للجمعيات الهندسية السورية ..
وفي ظروف غياب مراكر الأبحاث الهندسية, في الكثير من الاختصاصات , فإن النقابة مطالبة,موضوعياً أن تشكل جزءاً من المرجعية الهندسية العلمية , ريثما تتأسس أكاديمية للعلوم الهندسية و يتعمق و يتسع دور هيئة المواصفات السورية و تتشكل هيئات رفيعة المستوى مؤهلة و حيادية لاعتماد الجهات ( أو الاشخاص ) المخولين تنفيذ آعمال هندسية نوعية .
- كيف نستعيد محتوى ووجه النقابة , مهنياً و هندسياً و علمياً , كتنظيم مجتمعي إلى جانب الهيئات الحكومية , ليتكامل معها , في الموقف الواحد او المختلف , عند اللزوم ? مثل هذه الادوار التعددية ضرورة طبيعية , كي يتنفس المجتمع بكل قواه.
سيساعد في تحقيق هذا التحول : الفصل بين الجهاز الحكومي و النقابة : أي أن لا يجمع أحد بين منصبه الحكومي الرفيع ( وزير - معاون وزير - مدير عام ) و موقعه النقابي ( مرتبة رئيس فرع مثلا ) . بينما سيساعد في إبطال تمركز سلطة نقابية مديدة في يد شخص واحد : عدم السماح لعضو مجلس الفرع أو مجلس النقابة , أن يستمر في موقعه أكثر من دورتين متتاليتين.
ثمة الكثير يجدر التحاور حوله و العمل من أجله , في المجال الهندسي , كما في غيره من المجالات . المهم أن نجدد بناء هندسة سورية طموحة , جريئة , وذات حضور في محيطها العربي وعندما ندعس في هذا الاتجاه و نجد أن ما نخافه هو أوهام تعطل حيالنا وقد تخنقنا ..
هل يبادر المؤتمر السنوي لنقابة المهندسين , في آذار القادم , لإطلاق مشروع تطويري لنقابة المهندسين , يقترح أعضاؤها و يعملون من أجله ?و سيسحل لمؤتمر نقابة المهندسين الحالي ( لو فعل ) أنه في مستوى المسؤولية الهندسية و الوطنية.