نغّص الهاتف القيلولة، إذ رحت أتقلّب، مقلّباً الرأي في المعايير التي ينبغي أن تُعتمد في اختيار صاحب الجائزة، وكذلك في الأسماء الأجدر بها. وكنت كلما قدمت اسماً أو أخّرت اسماً، وكلما نقضت معياراً أو أضفت معياراً، أرى وجه زكريا تامر يملأ فضاء الغرفة، مشرقاً، لكأنه يهتف: أنا هبة الإبداع، إنها لي. وإنها له: كنت على يقين من ذلك، ربما قبل أن ينهي جابر عصفور هاتفه. ولن يصدق أحد من بعد، لا في جلسات لجنة التحكيم، ولا في فضاء مؤتمر القاهرة الدولي الأول للقصة العربية القصيرة، ولا بعد الإعلان العتيد عن الفائز المجيد، أنني لم أجالس زكريا تامر من قبل إلا في أوتيل براميزا عقب وصوله إلى القاهرة، عشية المؤتمر: بل إني لم أبادل زكريا تامر كلمة إلا قبيل المؤتمر، وعبر هاتف غازي حسين العلي.
كانت قصص زكريا تامر قد سكنتني منذ العهد بالجامعة، بعد صدور مجموعة «صهيل الجواد الأبيض» بسنوات. وحين قرأت مجموعة «الرعد» سنة صدورها عام 1970 ارتّجتْ روحي، فأنّى كان لي أن أتخلص من بعد من السماء التي تمطر أحذية، أو من الشاب الذي يذبح زوجته لأنها لم تغسل جواربه، أو من تقطيع الطفل «قصة في يوم مرح» أو من أكل لحمه «قصة جوع»! أنّى لي أن أنسى مصطفى الشامي الذي لا يستطيع النوم في القبر، فيعود إلى سرير زوجته، لكن الشرطي بالمرصاد، وبه تستوي الحياة والموت: إنهما السجن.
في قصة «الرعد» التي حملت المجموعة عنوانها، يسأل المعلم تلاميذه: لدينا عشرة ملايين شخص، شنقنا سبعة ملايين منهم، فكم شخصاً بقي على قيد الحياة؟
الله عليك يا زكريا.
بسبب ما جاء في كتابنا المشترك: بو علي ياسين وأنا ـ أي كتاب: «الأدب والأيديولوجيا في سورية» ـ نسفنا زكريا تامر زاوية هائلة مهولة عنوانها «الأدباء الأصفار». وربما كان ذلك ما جعلني لا أجرؤ على الاقتراب من الشخص، وبخاصة أنه كان في تلك الآونة، قبل خمس وثلاثين سنة، يتقلّب بين رئاسة تحرير مجلة أو عضوية المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب. غير أن ذلك النأي عن الشخص كانت تقابله لهفة على أية قصة له في مجلة، وعلى أية مجموعة من قصصه. وهكذا ارتجت روحي إذ سكنتني «النمور في اليوم العاشر» أو «دمشق الحرائق» أو «تكسير ركب» أو «القنفذ»...
في الجلسة الأولى للجنة التحكيم، أكدّت على ما أحسبه المعيار الأهم في منح الجائزة، وهو أن يكون الإبداع القصصي للفائز قد رسم مفصلاً حاسماً في تطور القصة العربية القصيرة، أي أن تكون قصص الفائز قد انعطفت بتلك القصة. وإلى ذلك، كنت مع سواي ممن شددوا على معيار الاستمرارية في كتابة القصة القصيرة والوفاء لها وتجديدها. ومن الجلّي أن كل ذلك إنما ينطبق على زكريا تامر أولاً وأولاّ. ومن جديد، ملأ عليّ فضاء الغرفة التي جمعت لجنة التحكيم، وكان الوجه مشرقاً، كأنما يهتف: أنا هبة الإبداع. إنها لي. وإنها له، إذ كان الفائز بضعف أصوات من يليه في كل جولة من جولات الاختيار، حتى إذا حلّت الجولة النهائية، جاء فوز زكريا تامر بالإجماع.
من أوتيل بيراميزا إلى العوامة اصطحبنا جابر عصفور عشية المؤتمر: زكريا تامر وعلوية صبح ومحمد شاهين وأنا. هكذا التقيت زكريا تامر، متأخراً قرابة أربعين سنة عن موعد كان يفترض أن يكون، بل كان عليّ أن أسعى إليه، أنا النكرة الطامحة في مقتبل حياتي، وزكريا تامر نجم يليق له أن يكون نجماً: هكذا ظل طوال هذه العقود بفضل إبداعه. وما زادتني لقاءاتي به في القاهرة، ثم في دمشق، إلا يقيناً من ذلك، كما لم تزدني إلا ندماً على أني ما عرفت هذا المبدع الفاتن من قبل، فهو الطفل والشيخ والمجرّب والمثقف والماكر والخبير والصارم.
في مؤتمر حول القصة القصيرة، انعقد في الشارقة عام 1989، تحدثت عن «اللحظة التامرية» في تطور القصة العربية القصيرة، وهذا ما عنيته بالمفصل الحاسم وبالانعطاف بتلك القصة. لكن الراحل الكبير جبرا إبراهيم جبرا اغتاظ من حديثي، وتحدث عن دوره هو في تطوير القصة. ولست أنكر عليه ذلك، كما لا أنكر على آخرين بصمتهم ودورهم، لكن زكريا تامر شأن آخر، ولذلك كان التحكيم في الجائزة العتيدة سلساً، على العكس مما أتوقعه في دوراتها القادمة. فبعد الفوز الكاسح لزكريا تامر سيكون الاختيار بين الجديرين بالجائزة صعباً، لأن الفوارق بينهم ليست ضوئية، كما كانت بين زكريا تامر وسواه.
عزيزي زكريا: أظن أنني كنت أول من قال لك كلمة مبروك. ومن جديد: مبروك، ولتدمْ مبدعاً وصديقاً.