وأزعم أني قبل أن أحاول الكتابة قد قرأت معظم ما تشتمل عليه المكتبة العربية من كتب مؤلفة أو مترجمة، ولم أقرأ الكتب الأدبية فقط بل قرأت كتباً متنوعة الموضوعات.. سياسية وفكرية واقتصادية وعسكرية وحتى الكتب ذات الموضوعات المتعلقة بالزراعة وشؤونها لم أهملها وحظيت بقدر كبير من اهتمامي، ولكن قراءاتي كانت قراءة من يمتلك معدة سليمة قادرة على هضم كل ما يفد إليها من طعام وتحويله إلى مادة تقوي الجسم وتنميه، وكان ما قرأته هو الأرض الصخرية التي انطلقت منها كي أكتب على الورق رؤيتي للإنسان والحياة محاولاً التعبير عن صوتي الخاص لا أن أكون صدى لأصوات الآخرين معتقداً أن الأديب حين يكون مجرد صدى، يفقد مسوغ وجوده كأديب، ويصبح استمراره في الكتابة نوعاً من جرأة غير مستحسنة لا تخلو من وقاحة وغباوة.
وعندما بدأت كتابة القصص لم أحاول التقليد أو الخضوع لأساليب سائدة.. كتبت ما أطمح إلى قوله مؤمناً بأن ما يُظن بأنه غير واقعي هو الواقعي بحق، وكنت حين أكتب قصة ما، أتمتع بحرية أفتقدها في عالم الحياة اليومية، فتحاول قصصي ألا تعترف بأية حدود بين مختلف العوالم، فلا حدود بين الموت والحياة والوهم والتخيل والحلم والخيال والواقع الشديد القسوة، وهذا الإلغاء لتلك الحدود هو في رأيي من أهم ما حققته في قصصي لأنه الأصدق في تصوير الأعماق الخفية لتلك المخلوقات البشرية التي تعيش على سطح الأرض العربية.
- أنا لست ضد الالتزام بالواقع، ولكني أكن عداوة عميقة للذين يتاجرون بذلك الواقع، وأنظر إلى القصة التي تعالج مشكلة مهمة من مشكلاتنا بأسلوب فني رديء على أنها إساءة كبرى إلى تلك المشكلة خاصة وأن الساحة الأدبية العربية مكتظة بالنتاج الذي يتاجر بمآسي الإنسان العربي، ويتخذها جسراً للوصول إلى القراء وخداع عقولهم وقلوبهم، ولا بد هنا من الإشارة إلى أني أعتبر نفسي قصاصاً واقعياً، وأنظر إلى ما أكتبه على أنه شديد الارتباط بالبيئة العربية وبشرها.
إن الالتزام قد يمنح الأثر الأدبي في مرحلة محددة قيمة ما ذات أهمية اجتماعية، ولكن احتفاظ ذلك الأثر بقيمته في مراحل تالية يرجع حتماً إلى مستواه الفني وأصالته ومدى ارتباطه بالقلب البشري لا ارتباطه بمشكلات مؤقتة.
وأنا واحد من الذين ينظرون إلى الالتزام على أنه مرتبط ارتباطاً عفوياً بأصالة الكاتب، فالكاتب الأصيل ذو الموهبة الحقيقية هو ببساطة إنسان يعيش فوق أرض، ومن المحتم أن يتأثر بما يجري حوله أكثر من الآخرين، وسيتجلى هذا التأثر في كتاباته بعفوية بعيدة عن الصراخ السياسي المتشنج.
- لم يخطر لي في أي يوم كتابة الرواية أو الشعر لأني مؤمن بأهمية القصة القصيرة كنوع متميز من أنواع التعبير الأدبي، وكلما كتبت قصصاً جديدة اكتشفت ما في القصة القصيرة من قدرات على التعبير لا حدود لها، فهي الشكل الفني الذي يتلاءم مع طبيعتي الكارهة للثرثرة الكتابية، والتي تفضل التكثيف والاختصار، وأرى أن النقاد العرب يخطئون خطأ كبيراً حين لا يتنبهون إلى عدد الكلمات المستخدمة في النصوص القصصية، فإذا أقدم كاتبان على كتابة قصتين عن موضوع واحد وبنجاح فني متشابه، فمن المؤكد أن الكاتب الأفضل في رأيي هو الذي استخدم عدداً من الكلمات أقل.
وما زلت حتى اليوم أنظر إلى القصة القصيرة على أنها الأداة الفنية الباهرة الغنية، ولكن الكاتب الرديء يحولها إلى ديدان تزحف في وحل بينما يحولها الكاتب الجيد إلى صقر يحلق في فضاء رحب.
ومن المؤكد أن النماذج الرديئة من القصص لا تدين القصة القصيرة كنوع من أنواع التعبير الأدبي بل تدين كتابها فقط.
- كل قصة من قصصي تتكون تكويناً مختلفاً. قد أكتب قصة كاملة في يوم واحد، ولكني أظل شهوراً أنقحها وأضيف إليها، وأفكر في كل كلمة من كلماتها متسائلاً : هل وجودها ضروري؟ أليس من الأفضل أن تستبدل بكلمة أخرى؟
حتى الفواصل والنقاط أفكر فيها التفكير الطويل، وعندما أنشر قصة وتخطىء المطبعة وتضع فاصلة بدلاً من النقطة أشعر بالخجل من القراء كأني اقترفت ذنباً لا يغتفر.
- عملي ينحصر في كتابة القصة فقط، أما تحليل القصة وتأويلها، فهذا عمل النقاد، وإذا أقدم كل كاتب على شرح نتاجه وتفسيره، فهو يلغي النقد ويحكم بالجوع على النقاد.
- المهمة الأولى للكاتب هي الكتابة التي تحرض على التغيير، أما إحراق المشانق ودفن الجلادين، فهي مهمة الضحايا على الرغم من أنه لا يمكن الفصل بين مهمة الكاتب ومهمة الضحايا لأن الكاتب هو ضحية أيضاً.. ضحية واعية، ولكنها لا تملك غير الكلمات سلاحاً، ومن المؤسف أن تتحول تلك الكلمات لدى بعض الكتاب إلى مهرج يقدم الخشب للجلادين لصنع مشانقهم مدعياً أن درجات المشنقة هي الموصلة إلى أكثر السماوات رحابةً وبهاءًً.
- المرأة في قصصي مخلوقة جميلة مسحوقة اجتماعياً ونفسياً وجسدياً. إنها أجمل الحدائق، تعطي الفرح، فلا تنال سوى المزيد من الأصفاد. أما الجنس في قصصي، فهو لقاء حار بهيج غريزي بين رجل وإمرأة، وهذا اللقاء هو فرح حقيقي في عالم كل ما فيه عفن متجهم قبيح، ولكني أطمح إلى أن يتحول إلى لقاء بين إنسانين لا بين مخلوقين هاربين من حياة يومية تشبه السجن.
- كتبت قصصاً شخصياتها من الأطفال لكوني شديد الاقتناع بأهمية مرحلة الطفولة في حياة كل إنسان، ولا وجود لإنسان لم يكن طفلاً، فهي مرحلة خصبة تحرضني على الكتابة وإدانة مجتمع غير إنساني لا ينجو حتى أجنته من التشويه، ففي المجتمعات المتخلفة التي تحكمها سلطة أكثر تخلفاً منها لا وجود لطفولة حقيقية، فالطفل هو هدف لتلك السلطة لأنه هو الذي سيقرر مستقبلها، فإذا كانت السلطة قد ضمنت حاضرها عن طريق قمع الكبار، فلا بد لها من حماية مستقبلها باللجوء إلى تشويه الأطفال وترويضهم وتلقينهم القيم التي تكفل لها الاستمرار في الحكم.
- العنف في قصصي ليس بضاعة مستوردة أو نزوة أو عقدة نفسية أو نوعاً من الإثارة والتشويق. إنه تعبير صادق عن حياتنا اليومية ووصف لما هو موجود واحتجاج على نظام اجتماعي يجعل من حياة الإنسان مجرد رحلة مفعمة بالهوان تبدأ من بطن أمه ولا تنتهي إلا في القبر.
نحن نعيش في عالم فظ سفاح لا يمنح بشره سوى البؤس والذل والخيبة والهزائم والمجازر الوحشية، ولا يستطيع الأديب الصادق الكتابة عن الياسمين وعطره بينما الصواريخ تبيد البيوت وتشعل الحرائق وتمزق اللحم البشري.
- الشعر في قصصي ليس طلاء خارجياً للألفاظ، فالكاتب حين يبتعد عن السطح ويحاول التغلغل في الأعماق لا بد له من اللجوء العفوي إلى الشعر، أما إذا كانت القصة تتناول موضوعاً فاجعاً، فمن المؤكد أن لغتها ستكون دقيقة مكثفة وشبه محايدة لاعتقادي بأن الشعر إذا استخدم في تلك الحالة تحول إلى مخدر لعقل القارىء وإحساسه، ينقله من التحريض على هدم عالم مظلم وفاسد إلى الندب الغنائي.
- أنا أثق بالقارىء العربي، وأعتقد أنه لا يمكن خداعه، فالدعاية مهما تطورت لا تستطيع أن تصنع أديباً ذا نتاج يبقى، كما أن استغلال التيارات السياسية لا يخلق أديباً حقيقياً، فالمطر لا يمكن أن يصنع من القمامة.
- الحياة الأدبية زاخرة بالأخطاء، وسأكتفي بذكر بعضها
1 - سهولة النشر حتى بات كل من كتب سطرين ركيكين ونشرهما في جريدة يعدّ نفسه منافساً لسان جون بيرس أو لفولكنر، ويأبى أن يقارن بأديب عربي.
2 – انتشار الغرور الداء الذي يصاب به الكثيرون ممن لم يعطوا بعد ما يبرر غرورهم.
3 - فقدان النقد الصارم النزيه حتى بات الوسط الأدبي حقلاً اختلطت أزهاره بعصافيره بأشجاره بحميره بديوكه بثيرانه.
4- الالتزام المزيف لبعض الكتاب، فهم من أنصار الحرية والديمقراطية إذا اضطروا إلى تغيير أنواع سجائرهم، وهم مناوئون للرأسمالية والبورجوازية إذا أفلسوا.
5 – الفوضى المتجلية في عدم التفريق بين الأديب والكاتب وبين معلمي المدارس والجامعات، فامتلأ البر والبحر والجو بكتابات سمجة تركل قراءها وتلطمهم.
6 - الدخلاء الذين يرتدون ثياب الأدباء والمفكرين والنقاد، ويقعدون على الكراسي التي لا يحق لهم الاقتراب منها كأن انتماءهم الفكري هو قيمة أدبية وفنية.
- ولدت بدمشق عام 1931، وكتبت كما أذكر أول قصة عام 1958، وما زلت في قيد الحياة، ولا أدري متى سأموت، وقد عشت دائماً كأني جثة قذفت بها طائرة في فراغ لا أرض له، وأنا فخور بحياتي الساذجة التي تحتقر المغانم حفاظاً على القليل من الحرية والكبرياء والاستقلال.