يضم قصصًا متنوعة من مختلف مجموعاته ومراحله. وقد أتاح هذا الكتاب فرصة واسعة لجيل جديد من القراء في مصر أن يتعرف على عالم زكريا تامر.
قراءة زكريا تامر ستظل على الدوام اكتشافًا مدهشًا، ويخيل إليَّ أحيانًا أن قصصه بقدر ما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقع السوري والعربي في الخمسين عامًا الماضية، كانت تتجاوز ذلك بحيث تكون قادرة على إدهاش قارئها وإمتاعه، مهما يكن الزمان والمكان اللذين ينتمي إليهما هذا القارئ. يخيل إلي أحيانًا أن قصصه كان يمكن أن تُقرأ في أزمنة قديمة، ربما لدى اليونان أو المصريين، أو في العصور الوسطى، أو في العصور القادمة، وأنها يمكن أن تقرأ في كل مكان في عالمنا، لأنها - شأن كل فن عظيم - قادرة على اختراق حدود الزمان والمكان، بقدر وعيها المتبلور تمامًا بزمنها ومكانها الخاصين.
كانت قراءة زكريا تامر بالنسبة لي اكتشافًا مدهشًا لم أنسه قط. وكانت صورته عندي - ولا تزال - مرتبطة بأشياء ثلاثة تتردد بوضوح في عالمه القصصي:
جملةٌ سهلة موجزة قاطعة تبدأ بها القصة؛ فتضع قارئها من البداية في قلب عالم غير عالمه.
تنقُّلٌ عجيب، ومقبول، ومتكرر، بين عالمين: أحدهما يومي تمامًا وعادي، والآخر غريب وسحريّ؛ بحيث ينتهي القارئ إلى ضيق المسافة أو انعدامها بين هذين العالمين، وبحيث يتحول العالمان في النهاية إلى عالم واحد، يسكنه البشر والحيوان والنبات والجماد على قدم المساواة؛ فكل شيء في هذا العالم الغريب قادر على الإحساس والكلام والصمت أحيانًا.
عنفٌ دموي مقموع، يتفجر تحت عالم يبدو مغسولاً وجميلاً وشعريًّا ومحزنًا، وسخريةٌ مرّة موجعة تضحكنا وتضحكنا حتى البكاء.
هذه الأشياء الثلاثة جميعًا، لها علاقة من ناحية بفن القصة القصيرة كما فهمه زكريا تامر، ولها علاقة من ناحية أخرى بالكتابة للأطفال التي شكلت جانبًا حيويًّا من إبداعه العريض، كما أن لها علاقة من ناحية ثالثة بالحكاية الشعبية في أبسط صورها وأنصعها.
لزكريا تامر – شأن كتاب القصة القصيرة الكبار - بصمةٌ لا تشبهها بصمة أخرى، تكاد تستشعرها من جملته الأولى؛ فالحكايات العابرة، ورفاقنا من البشر، الذين يمشون مع أنفسهم مستوحدين حالمين في الشوارع، وتبدو حيواتهم عادية مملة مكرورة، هم موضوع القصة القصيرة الأثير، هم الصوت المنفرد، وهم التعبير البسيط المقتضب عن مفارقة الأمل العاجز التي تواجه البشر إزاء عالم واسع مرعب ومستعص على الفهم.
يلتقط زكريا تامر هؤلاء، ومن خلال حكاء عليم أقرب إلى رواة الحكاية الشعبية، وبعيون أطفال تركوا لخيالهم العنان، فأنطقوا الحيوان والنبات والشمس والقمر والنهر والجبال، واستحضروا من التاريخ الإنساني شهودًا دائمين على عالمنا هذا المرعب، أحضروا عمر المختار والمتنبي وعنترة والشنفرى، كما أحضروا جنكيز خان وتيمورلنك وهارون الرشيد وطارق بن زياد وكليبر وسليمان الحلبي، كل هؤلاء وغيرهم جاءوا من التاريخ وقد غيروا جلودهم، ليلتقوا بمحمد المحمودي وأبو كاسم وأبو شكور وأبو سمير وأبو حسن وسرحان العاصي وخليل السامر وغازي وأبو فهد..
وكانت نتيجة كل هذا عالمًا قصصيًّا خصبًا، صاغته لغة طفلية بسيطة، تنطوي على ما في خيال الأطفال البسيط من شعر. وهل الشعر إلا عالم غريب كعالم الأطفال، تمتزج فيه عوالم تبدو لنا نحن الكبار متباعدة، عالم يتحول فيه الليل إلى»وردة من طين»، وتنبت فيه»البيوت والدكاكين والمآذن والمقابر»! إنه عالم زكريا تامر وأطفاله المسحورين.