أمّا الكاتبان الآخران فهما محمود تيمور ويوسف إدريس. كانت قراءتي لقصص زكريّا تامر في البداية من خلال مجموعاته صهيل الجواد الأبيض وربيع في الرّماد والرّعد ودمشق الحرائق وعندما يهاجر السنونو ونداء نوح وغيرها قراءة استمتاع وهواية. فقد كانت هذه القصص تثيرني بقوّة إحالتها المرجعيّة وبخيالها المتدفّق في الوقت ذاته، بنقدها السّاخر للسلطة الّذي يتحوّل أحياناً إلى هجائيّة سياسيّة وإيغالها في الرّمز الّذي يحتاج إلى قدرة فائقة لفكّ الشّفرة أحياناً ليظهر المعنى وتتجلّى الدّلالة. ولكنّ تعاملي مع هذه النّصوص القصصيّة سرعان ما خرج من موضع القارئ الهاوي إلى موضع الباحث النّاقد. فمنذ أعوام دعيت إلى إلقاء درس على طلبة شهادة التبريز بدار المعلّمين العليا وهي من أرقى الشّهادات العليا في بلادنا، وسررت عندما وجدت مجموعة النّمور في اليوم العاشر نصّاً بين ثلاثة نصوص مبرمجة، والنصّان الآخران ليوسف إدريس والتّونسي حسن نصر.وكان عليّ أن ألقي مجموعة من الدّروس في هذه المجموعة القصصيّة الّتي كتبها زكريّا تامر.كانت هذه الدّروس مناسبة للعودة إلى نصوص زكريّا تامر وللنّظر فيها باحثاً ودارساً. وفي الأثناء أدركت أنّني أقرأ كاتباً كبيراً استطاع أن يفجّر كلّ إمكانيات القصّة القصيرة ويجعل منها فنّا يمتلك قدرةً تعبيريّة ًفائقةً ويحوّلها إلى خطاب فنّي يجسّد أرقى ما وصل إليه هذا الفنّ من التّمثّلات الجماليّة والإبداعيّة.
لقد استطاع زكريّا تامر أن يطوّع فنّ القصّة القصيرة، إذ مرّ خلال تجربته الطّويلة معه بمراحل عديدة.لقد بدأت رحلته الإبداعيّة بضرب من التّعبير الواقعي، بل الواقعي النّقدي، ثمّ انتقل إلى ضرب من التّعبير الرّمزي، يستنطق الأشياء والحيوانات في ضرب من الإغراب، ليتحوّل في النّهاية إلى كاتب تجريبيّ بامتياز، يبحث عن الأشكال الجديدة ويبتكر الأساليب المغايرة، لأنّه أدرك، شأن كلّ كاتب كبير أنّ أخطر ما يواجه المبدع أن يحشر نفسه في زاوية واحدة وقد لا يخرج منها، أي أن يحوّل تجربته إلى كتابة نمطيّة تجعله يعيد نفسه ويحاكي تجربته. ولذلك نراه يخوض في مسار التّجريب إلى أقصى حدّ دون أن يتخلّى عن رؤيته الاجتماعيّة والسّياسيّة.
لقد كتب زكريّا تامر القصّة القصيرة وكتب الأقصوصة وكتب القصّة الومضة، وهو في كلّ ذلك جرّب الأشكال المتنوّعة دون أن يتخلّى عن رؤيته للعالم. ولعلّ أهمّ ما يشدّني إلى عالم زكريّا تامر القصصي أمران أوّلهما تلك النّزعة النّقديّة السّاخرة، إذ استطاع من خلال هذه المجموعات الكثيرة الّتي كتبها أن يختزل اختزالاً فنّياً واقع المجتمع العربيّ السّياسيّ والاجتماعيّ. فوصف ونقد وسخر دون أن يتحوّل فنّه إلى خطاب سياسيّ أواجتماعيّ، أمّا الأمر الثّاني فهو يتعلّق بالقصّة الومضة الّتي ابتكرها في وقت مبكّر.ولكنّه لم يجعل من هذه القصص القصيرة جدّا أو القصص الومضات نكات يتندّر بها القارئ، بل صاغها في سياق قصّة تجريبيّة متطوّرة. فالقصص الومضات في أغلب نصوصه مقاطع عديدة تحت عنوان واحد، شأن قصّة رندا أو قصّة الأعداء، تجمع بينها شخصيّة واحدة أو تيمة واحدة أو وضعيّة واحدة. وبذلك تملك القصّة الومضة من الاستقلاليّة البنائيّة بقدر ما تملك من الاشتراك في تحقيق بنية القصّة العامة وتنتج معناها ودلالتها.
لا شكّ أنّ التّجريب القصصيّ عرفه العرب منذ ستّينات القرن الماضي ولكنّ زكريّا تامر أكّد أنّ التّجريب قادر على الاستمرار وقادر على الابتكار والإبداع.
مع زكريّا تامر لا تزال القصّة القصيرة تنجز مشروعها الإبداعيّ ولا تزال في النّهاية تعيش زمنها.