أمّا على مستوى الفنيّة، فإنّ آليّة عرض القصّة القصيرة وتقنيّات كتابتها مغامرة متقدّمة، فالقصة القصيرة ظهرها مكشوف، لا تحتمل ترهّلاً قد يخفيه امتداد السرد في الرواية، وربّما يكون هذا أحد أسباب تراجع الإقبال على كتابتها. لكن، يبقى لهذا النوع الأدبيّ السردّيّ رهبان، نذروا أقلامهم له، ولعلّ أشهرهم القاصّ السوريّ «زكريّا تامر» الذي يعدّ أهمّ كتّاب الستينيّات، ليس في سوريّة فحسب، بل في العالم العربي كلّه، والذي أصدر أول مجموعة له وهي «صهيل الجواد الأبيض» عن دار مجلة شعر، في بيروت عام 1960، ثمّ تناسلت مجموعاته حتّى الألفيّة الثالثة، فكانت «نداء نوح» 2001، و«تكسير ركب» 2002، والصادرتان عن دار الريّس في بيروت.
لعلّ أهمّ ما يميّز مسيرة «زكريّا تامر» هو تلك الرغبة العاتية في التعبير، في مرحلة كانت الكتابة فيها مثل المشي في حقل ألغام، ممّا حمله على ابتكار تقنيّات في القصّ لم يسبقه أحد إليها، فأمام جدار القمع الذي بني في العالم العربيّ حجرة وراء أخرى، فصار مَعلماً أصيلاً، لا بدّ للمبدع من جواد أبيض أو أسود ينطلق بمئات الآلاف من المتلقّين إلى عوالم أكثر بهجة، لكنّ جواد «زكريا تامر» كان أشبه بحصان طروادة الذي انتقل بنا إلى عوالم أكثر فداحة من حيث القسوة، والرعب مما هو ماثل في عالمنا، لنصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أنّه ليس ثمّة واقع أقسى ممّا نعيش إلاّ في الخيال، والخيال المريض! وهذا لا يمكن الوصول إليه إلاّ بالغريب، والعجيب، والفانتازيّ. وفي ذلك ظلّ «زكريا تامر» يحافظ على المسافة بين الشعريّ والسرديّ، فقد امتلك ناصية السرد، على الرغم من الطاقة الشعريّة المختزنة في نصّه، والمتأتية من المرجعيّة التاريخيّة، ومن التصوّرات القائمة لعالم ما بعد الموت، ومن التنقّل بين ألوان طيف القهر الذي يأكل كلّ يوم قطعة من سماء المواطن العربيّ.
لعلّ الثيمة المعروفة في قصّ «زكريّا تامر»، هو اعتماده التجريب، لكنّ الحفاظ على هذه الثيمة لا يعني ثباتيّتها، لأنّها ثيمة متحوّلة في أصلها، فالتجريب ضدّ الثبات، أي ضدّ أيّ سلطة فنيّة تمليها واحديّة الفكر، وهذا ما نسجه منذ البداية النصّ الأشهر لـ»زكريا تامر»»النمور في اليوم العاشر» الذي يفكّك فكرة التدجين، ويردّها إلى العضويّ في ظواهر الطبيعة، ويسقطها على الواقع، ولأنّ «زكريا تامر» أدرك آليّة ترويض النمور، فقد نجح في أن ينجو من عمليّات التدجين برمّتها سواء أكانت فكريّة أم فنيّة.
إنّ إعلان فوزه بجائزة القصّة القصيرة الأولى، والذي تمّ في القاهرة، مساء الأربعاء 4/ 11/ 2009، نقطة علاّم لكلّ الذين يؤمنون بدور الفنّ الأصيل في التغيير، وبصموده أمام كلّ من الطوارئ، والغارات الخلّب.