تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


السخرية السوداء

ملحق ثقافي
17/11/2009
محمد أبو معتوق

زكريا تامر مزيج عجيب... من روح الأساطير وكثافتها إلى فتوحات ابن عربي إلى أشباح إدغار آلان بو يضاف إلى ذلك لغة موشحة بالظلال. مشبعة بالأشكال والألوان.

مرسومة بريشة رسام تعبيري أخاذ. لا يعبأ بالخطوط الأولى للكائنات والذوات.... وإنما يعمد لتشكيل الملامح والدلالات والأبعاد. حيث يتشكل السرد بريشته وألوانه على هيئة تخصه ولا تخص سواه, لذلك يبدو غريبا ًَوفاتناً, شرساً وحنوناً, معتماً وغارقاً في الضياء.‏

وإذا كانت الأساطير والمعتقدات تتحدث عن خلق العالم, وإعادة تشكيل الذات الهائلة للعالم في ستة أيام.... فإن «نمور» زكريا تامر, احتاجت إلى عشرة أيام لتفقد ذواتها وتتخلص من خصائصها.. لتعود ثانية إلى الحظائر والحاويات, «لتهرّ وتقرّ» وتقبل بالفتات.‏

لقد انشغل زكريا تامر بأمرين جوهريين:‏

أولهما:إعادة تشكيل الجملة السردية العربية وإنجاز فرادتها وتعدد مؤثراتها ودلالاتها.‏

وثانيهما:الانشغال بالطريقة التي يتم من خلالها إعادة تشكيل المواطن العربي, وتقويض فرادته وحريته وإدخاله في القطيع ليتحول إلى كائن بار بالسلطات, بيّن التهذيب, شديد الاغتفار والولاء. - الجملة في سرد زكريا تامر هي الملك.‏

لذلك يتفرغ لها ويعيد صقلها وتنشئتها وصياغة جاذبيتها وعمقها وحريتها بقلم صنّاع.‏

وعندما تستأثر الجملة في سرده بكل هذه المكانة والكثافة, والتأثير والفرادة, يصير من حقه أن يكتفي بكتابة القصص القصيرة, ويعلن في أكثر من موقع ومكان انصرافه عن الرواية والدخول في حمّاها, التي تبدت في أكثر من حالة وانتشار, على أنها كتاب هذا الزمان. وقد فعل ذلك ربما لاعتقاد منه, بأن قصصه اختزال عميق وطويل لشيء أكثر بلاغة من الروايات, أو ربما لأنه أدرك بحسه... حقيقة هذا الزمان, وبأن إنسان العصر المرتهن للحركة الدائبة واللهاث, كما هو عليه الكائن في «أزمنة تشارلي شابلن الحديثة» غير قادر بسبب امتلاكه لزمن ضئيل وإعياء طويل.. على قراءة المطولات.‏

لقد ظهر أدب زكريا تامر المتعدد «قصة- مقالة- أدب أطفال» في زمن فقير نقدياً... وحافل بالتحول والموران, واستطاع منجزه السردي أن يشكل علامة فارقة وقوة انتشار, وصار ممكناً القول... بأن القصة العربية قبل زكريا تامر, هي غير القصة بعده, لأن تجربته لم تعد تخصه وحده وإنما أثرت في الكثير ممن عاصره ومن جاء بعده.‏

وبسبب من أهمية منجزه السردي وإشكاليته وعدم استسلامه لترسيمات منجزه تواضع عليها النقاد, لذلك اختلفوا فيه, واضطربوا في تأويل كثافته ومعناه, فتعرض مثله مثل كل الكتّاب العظام... لتأييد جائر وشجب جائر, وتلك من الظواهر التي تدل على الأهمية والثراء.‏

لقد انصرف زكريا تامر في أدبه..لتفكيك دور السلطة سردياً ودلالياً, وإعادة تأويل العلاقة بينها وبين الكائن والزمان بصورة تختلف عن الأدب السياسي السائد, المفعم بالانفعال والصراخ... لقد عمد لتقويض ذلك عبر تحالفة مع السخرية السوداء.. السخرية الحادة والعميقة, السخرية التي تحز العصب والعظم... دون أن تعبأ بالصراخ...‏

لذلك تمكن عبر مسيرته الإبداعية من شق طريق مختلف للأدب السياسي, طريق منشغلة بالفن والإبداع, وغير منشغلة بما دون ذلك من نواح ولطم وبكاء.‏

فله وقد فاز بالجائزة,‏

له كل ما يزخر به أدبه من فتنة وحياة.‏

وله كل ما نحبه فيه من فرادة وإبداع....‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية