وفي ذلك يكمن موتها وسكونها, لا حياتها وديناميتها كما يتوهّم مريدوها. فالأثر الفنّي يحيا ويتفاعل ويؤثّر بقدر ما يكتنزه من دلالات متحوّلة وملتبسة خطابا ومتناً, وما يثيره من أسئلة ووجهات نظر متباينة, وذلك ما تمثّله نصوص زكريا تامر القصصية والإشكالية بامتياز, والتي ما زالت تحفّز على القراءة, وإثارة الأسئلة, والاختلاف حولها ومعها, والانتصار لها أو الاستقواء عليها, منذ «صهيل الجواد الأبيض» حتّى «تكسير ركب», على الرغم من كل الجوائز الرفيعة التي حظيت بها, ولم تعصمها أو تحجبها عن المساءلة النقديّة, بدءا من جائزة «سلطان العويس», ووصولا إلى جائزة «ملتقى القاهرة الدولي الأول للقصّة العربية» قبل أيام!
يتمحور الخطاب القصصي «التامري» على تصوير مفارقات الواقع, وتحوّلات منظومة قيمه الأخلاقية, وعنفه الصريح والمضمر, واستشراف آفاقه, عبر شخصيّات أنثوية وذكوريّة, مأزومة طبقيا وجنسيّا, تعيش صراعا حادّا بين شرطها الإنساني القاسي وحلمها الجميل, في إهاب من الخيال المجنّح, الخيال الذي يكافح ـ على حدّ تعبير يوسف اليوسف ـ«التخثّر والتشيؤ وجنوح الواقع إلى التسطح والافتقار إلى النكهة المنعشة». ويتكئ هذا الخطاب على مرجعيات فنيّة باتت ثيمة رئيسة تميزه عن سواه, منها:
ـ جمالية اللغة في بعدها المجازي وانزياحها التعبيري, وتركيبها المحتشد بالترميز والتورية والسخرية الموجعة التي تستدعي الألم والأسف واللوم لا الضحك والتسلية! ومعجمها الغنيّ بدلالاته على القهر والعنف واختلال العلاقة بين الرجل والمرأة, والابن والأب, والمعلم والتلميذ, والحاكم والمحكوم, عبر مفردات تتكرّر في سياق عدواني وتدميري مثل: المدية, السكين, الاغتصاب, الدم, الشنق, الذئب, اللحم, الجوع, القتل, السجن, الشرطي, المخفر, القبو, القبر...
ـ توظيف الموروث, والتّناص مع الأمثولات الرمزية, والمحكيات السرديّة, مثل: «كليلة ودمنة», و«ألف ليلة وليلة», والشخصيات المرجعية التاريخية, مثل: «طارق بن زياد», و«عمر المختار», و«يوسف العظمة», و«سليمان الحلبي», على أساس من المفارقات بين ما كانت عليه تلك الشخصيّات في الماضي بوصفها رمزا للبطولة والنبل والتضحيّة, وما آلت إليه في الحاضر بوصفها رمزا للتآمر والخيانة! بما يعزّز النزعة الهجائية للواقع الراهن, والتحفيز على تغييره.
ـ المزج والتداخل بين المستويين: الواقعي والفانتازي, في مسار الأحداث ومصائر الشخصيّات, وإحالاتها, إلى الحد الذي يخلخل فيه أفق توقعّات القارئ, ويترك فجوات واسعة تحتاج إلى ملء, ويفتح البنية السرديّة ومآلاتها على التأويلات المتعدّدة.
ـ تنوّع الصيغ في إستراتيجية العنونة ما بين شاعرية مكتنزة, تحيل على دلالات متعدّدة كما في العنوان الرئيس لمجموعة: «ربيع في الرماد», و العنوان الداخلي لإحدى قصصها: «الأغنية الزرقاء الخشنة». ومجازية تحيل عبر التشبيه البليغ على مكان متعيّن كما في عنوان مجموعة: «دمشق الحرائق» أو عبر الكناية على العنف المعلن كما في عنوان مجموعة: «تكسير ركب»الذي يغتني بالسياق النّصي ويُغنيه في آن معاً. وتناصيّة تحيل على مرجعية تاريخية أو دينيّة كما في عنوان مجموعة: «نداء نوح», وقصّة «الذي أحرق السفن» من مجموعة «الرعد».
وفي سياق الموقف النقدي من تجربة تامر القصصية, والأخذ والرّد في مستواها وموضوعاتها وقيمتها الفنيّة, فقد حظيت بندوات وبدراسات أكاديمية ونقدية ومتابعات صحافية عدّة في مختلف الساحات والمنابر الثقافية العربية والأجنبية أيضا, وتباينت فيها الآراء إلى حدّ التناقض أحيانا, لكنها تجمع في معظمها على خصوصية وفرادة هذه التجربة, وخروجها عن المألوف والسائد, وتأسيسها لخطاب قصصي مغاير شكلا ومحتوى لما قبلها من التجارب القصصية, على الرغم من المآخذ التي سجّلت عليها بحقّ أو من غير حقّ في هذا الجانب أو ذاك مما يحتمل النقاش. ومن الصعب التوقّف عند مجمل ما كتب عن هذه التجربة في هذا المقام, أو حتى عند جزء يسير منها, ولكن لا بدّ من الوقوف عند بعض الدراسات/العلامات النقدية الهامّة التي تناولتها.
والبداية مما كتبه «نبيل سليمان» و«بو علي ياسين» في كتابهما «الإشكالي»المشترك والمثير للجدل: «الأدب والأديولوجيا في سورية» عن مجموعة زكريا تامر: «الرّعد», تحت عنوان: «الرعد الذي لا يمطر». فهما يثمّنان هذه التجربة, ويشيران إلى أن «أخلاق المجتمع وقيمه, تظل هدفا أثيرا للكاتب», وإلى أن لغته الساخرة مريرة وذكيّة, وأن مجموعته تمتاز بالشاعريّة, بما فيها من صور وألوان وانتقاء متأن ومتعمّق للكلمات, ويشيدان بالخيال الواسع الذي وإن كان يكرّر نفسه أحيانا ـ على حدّ تعبيرهماـ يعطينا صورا أخّاذة تفرض علينا أحاسيس الكاتب حتى حين يجعل من الجمال قباحة ومن القباحة جمالا, فهو خيال كالذي نراه في الأحلام أو عند الأطفال والعصابيين!
تعدّ هذه القراءة الفنيّة المتبصّرة من القراءات المبكّرة لنتاج تامر القصصي, وهي على ما فيها من إدراك لأبرز خصائص تجربته الفنيّة تنتهي إلى حكم ظالم على الكاتب نفسه لا على النّص: «ينطلق زكريا تامر من فهم أحادي الجانب, وبالتالي مغلوط للواقع. ليس هناك عواطف إنسانية. الإنسان وحيد في وسط معاد. الكل ضد الفرد, والفرد ضد الجميع». وصولا إلى القول عبر السؤال/الجواب, الذي جاء في نهاية القراءة محمّلا إياه مهمّة السياسي, ودوره في تغيير الواقع: «لقد قال زكريا....إن هناك مخلوقا مضطهدا بائسا لا يضحك ومحروما من الفرح والحريّة, فهل غيّر الكاتب في ذلك شيئاً؟ أم أنه أعطى هذا الإنسان مبرّر اضطهاده وحرمانه من الفرح والحريّة»؟
لا شكّ أن المزج بين الكاتب ونّصه, والحكم عليه وعلى موقفه الفكري من خلاله أو من خلال ما يعيشه ويتبنّاه ويفصح عنه أبطاله من سلوك, ونوازع, ودوافع, ورؤى, ووجهات نظر, أصبح الآن من مخلّفات النقد الإيديولوجي الجدانوفي, وإن كان المرء لا يطمئن تماما إلى أطروحة بارت عن «موت المؤلف» التي تفصل فصلا مطلقا بين النّص ومبدعه!
وتأتي دراسة د. خليل الموسى عن مجموعة «تكسير ركب» في الأسبوع الأدبي العدد 910 ـ 2004, تحت عنوان: «شيخوخة الأدب», الذي يشي بنزعة هجوميّة استباقيّة, في سياق إعادة النظر في الإبداع الجديد للرموز المكرّسة بعيدا عن سلطة نجوميتها, و«قداستها», وهو حقّ مشروع لأي ناقد يخلص للحقيقة لا للأهواء الشخصية شريطة موضوعيته, وقبوله الأوّلي بالحوار. ويبني الموسى دراسته على الكلمة التي دوّنها الناشر»رياض الريّس» على الغلاف الأخير, سواء أكانت بقلمه أم بقلم تامر نفسه, ومثل هذه الكلمة تعدّ عتبة واحدة من عتبات النّص كما يعرف الموسى ذلك, وليست كل عتباته, أو متنه الأساس, لذلك ستبدو الأحكام التي توصّل إليها مستندة إلى توصيف جزئي خارج النّص/ المتن, مما يضعف حجّتها ويقلّل من تأثيرها. فمن خلال هذه العتبة وحدها التي تؤدي وظيفة إغوائية وتسويقية بالدرجة الأولى ناقش الموسى ما جاء فيها من توصيف للنّص اشتمل على: سهولة القراءة, والتسلية والتشويق, والبساطة, والتكثيف, والجرأة, والارتباط العفوي بالبيئة ومشكلاتها, وإنتاج واقع غير إنساني, ومحاولة لاختصار حياة. مؤكّدا بذلك على الأهمية الفنيّة لهذه السمات في الجنس القصصي, وعلى حضور بعضها في النّص التامري, واشتراك بعضها الآخر مع سواه من التجارب والكتّاب. ومع أنه يقدّم احترازا يبدي من خلاله إعجابه بالقصّة التي كتبها زكريا تامر سابقا, إلا أنه يصل إلى نتيجة ظالمة أيضا بقوله:«وهكذا بحجّة القصّة القصيرة جدّا خرجت أمثال هذه الكتابات مما هو متعارف عليه من ضوابط في القصّة القصيرة, وأصبحت حالة أو حكاية أو خاطرة, أو أي شيء آخر, لكنه ليس قصّة.... ولما انتهيت من قراءة هذه المجموعة «تكسير ركب» خرجت منها بقناعة تامة بأن زكريا تامر الذي عرفته في الأعمال السابقة لا حضور له في هذا العمل, ولذلك تيقّنت بأن للأدب شيخوخة وجفافا ونضوبا...».
وهنا يطرح السؤال نفسه: ألم يخالف زكريا تامر الشروط المتعارف عليها للقصة القصيرة منذ مجموعته الأولى: «صهيل الجواد الأبيض 1960»؟ ثُم ألا تشتمل هذه المجموعة على السمات نفسها وإن بدرجة أقل أو بزاوية نظر أخرى؟ ومنذ متى كان للإبداع شروط صارمة أبدية لا تحول ولا تزول؟ وهل للأدب شيخوخة حقّاً أم أن هناك استثناءات بدليل ما أنجزه دوستويفسكي في آخر أيامه من أعمال عظيمة مثل «الأخوة كرامازوف؟
إن الدراستين السّابقتين على ما فيهما من جرأة نقدية مسلّحة بفهم عميق لفنّ القصّة لا تنطلقان من النصوص ذاتها, بل من خارجها, فما انتهى إليه نبيل سليمان وبو علي ياسين يتعلّق بالكاتب لا بنّصه, وما انتهى إليه خليل الموسى لا يستقرئ النّص ذاته بل ما كتب عنه, وإن حاول التدليل على آرائه من خلال نصّين اختارهما في سياق البرهنة على استنتاجه, آخذا عليهما أنهما يبدأان من الجنس وينتهيان إليه, مع إقراره بأن القصة الأولى موحية وإيحاؤها شفاف, ومركزها بسيط.
أما الدراسات/ القراءات/ العلامات, التي تتماهى مفتونة بالنّص التامري خطابا ومتنا وعنونة, فهي الأغلب والأعم, وبعضها يسوّغ هذا الافتتان مستندا إلى ذخيرة معرفية وفنيّة ومنهجيّة تستحق التقدير. وما بين القراءتين, المتحاملة والمفتونة, لا بدّ من وقفة أخرى مع نتاج زكريا تامر الذي تخطّى حدوده العربية إلى لغات العالم, مستأثرا باهتمام واسع, وتاركا بصمته المتفرّدة على النتاج القصصي برمّته في القرن العشرين.