من غير أن ينزلق بهم النهج إلى ما يقع خارج النوع الذي ارتبط باسم زكريا على الصعيد العربي ارتباطاً تجاوز الحدود المألوفة في حالات مماثلة. فزكريا لم يكتب خارج النوع القصصي القصير، خلافاً لمعظم ممارسي هذا الفن الذي جربوا الخروج منه إلى أنواع سردية مجاورة، أو إلى فضاءات أدبية أخرى. والمسألة ليست مسألة التزام الأديب بالنوع الذي برع فيه، بل تتمثل عند زكريا في أنه ذهب بالقصة القصيرة إلى آفاق قصوى خرجت بها من كونها مجرّد قصة قصيرة يكتبها قاصّ بارع موهوب، إلى نصّ مؤسّس لسلسلة مفتوحة من النصوص اللاحقة التي لا تستطيع الانحراف بنفسها عن سمت المنطلق الأول المرتبط حصراً باسم المؤسس الأول. ولأن نصوص زكريا تقع على حافّة المستحيل، من غير أن تتوغّل فيه إلى حدود حجب الممكن فيها، فهي نصوص مغوية إلى حد الولوغ في عمق خطايا الانتهاج أحياناً، والتقليد السقيم أحياناً، والاستباحة النقدية المتهافتة التي تبيح لنفسها التطاول على ما يقع خارج إمكانياتها أحياناً.
والأبحاث الأكاديمية الرصينة أحياناً، والرسائل الجامعية الرديئة أحياناً...إلخ.. والواضح أن ما نسوقه سلسلة طويلة، ومفتوحة للمزيد من التطويل، والواضح أيضاً أن ذلك ينتمي إلى نواميس الحركة، لا إلى مقابر السكون، وهل هناك ما هو أعظم من النص الذي يستطيع أن ينتج كلّ هذه الحركة؟، أو يستقطبها للتمحور حوله في أبسط الأحوال؟.
قيل عنه الكثير، وكُتب حول نصوصه الكثير، قال عنه الراحل محمد الماغوط ما معناه أن زكريا لم يترك مطرقة الحداد بعد أن تحوّل إلى ممارسة الكتابة، لكن العالم الذي واجهه بتلك المطرقة كان عًالماً من الفخّار. ووُسمت قصصه بأنها نسيج ذاتها، وبأنها تجريدية، وتجريبية، ورمزية، وواقعية، وغير ذلك كثير، وذكرت كلمة لجنة التحكيم التي منحته جائزة ملتقى القاهرة أبرز ما وجدته تلك اللجنة الموزّعة على معظم البلدان العربية من مزايا واسمة لنصوصه التي جعلت اللجنة تجمع على اختياره لنيل جائزة الملتقى الأول. ولن يضيف جديداً تكرارُ ما قيل، غير أن الإشارة مستحسنة إلى ثراء تلك النصوص، وإلى ما يمكن أن نسمّيه «إشكاليّتها» التي تجعلها نصوصاً متأبّية على الانصياع لمبدأ التصنيف، وتأنف الانقياد إلى الدراسات التبسيطية التي تجنح إلى السياحة العامّة عبر ظواهر النصوص، وتكتفي بشرحها على الطريقة المدرسية، وتجنح أيضاً إلى تقويلها مقولة الدارس، ومقولة الموقف المسبق منها، لا مقولتها هي ذاتها. إن نزعتها التجريدية أحياناًً، والرمزية أحياناً، لم تبتعد بها عن صميم محليّتها المتراوحة بين وعائها العربي الفضفاض، من جانب، وأزقّة دمشق القديمة، وخفايا بيوتها، وأعماق أعماق بسطائها، وأكابرها الأشرار، من جانب آخر.
لن نضيف جديداً إذا ذهبنا إلى أن زكريا قد بدأ كبيراً، وأنه ظلّ كبيراً من غير أن يتزحزح عن الذروة الفنّية التي بلغتها نصوصه الأولى، ولن نضيف جديداً إذا ما عمدنا إلى محاولة اختزال مجمل ما جاء في الدراسات والبحوث التي ما كان لها أن تكون لو لم تشتغل على نصوص زكريا تامر. ولكن لا بدّ من التنويه بمسألتين: تتمثّل الأولى في السمة التأسيسية التي تتمتّع بها نصوصه القصصية، إذ حملت سمة النصّ المؤسس، أو النسق المؤسّس الذي يحمل في ذاته إمكانية البناء عليه، وتلك هي سمة النصوص العظيمة عبر التاريخ، وهي عظيمة لأنها نصوص تأسيسية. وتتمّثل الثانية في قدرة نصوصه على موازاة الشعر، وعلى مضاهاته أحياناً، من ناحية القدرة على التكثيف، والغوص في الأعماق، ومن ناحية التصدي للتجوال على تخوم ما يُسمّى بـ «الكليّات»، وداخل أرجائها أحياناً، من غير أن تتخلّى نصوصه عن صفتها القصصية النثرية، عبر تماسّها الشديد مع الواقع، وعبر انضغاطها نحوه، في سبيل المزيد من الغوص فيه، لاستبطان جميع ما فيه، وأعمق ما فيه. وعبر ابتكاراته العديدة لشخصيات قصصية تقاوم الزوال والنسيان، وتتجذّر في تقاليد القراءة والحياة الثقافية على امتدادي الزمان والمكان، كما في مثال النمر الذي ينهق كالحمار، ويأكل العشب ليتسلّى، ليصير في يومه العاشر مجرّد مواطن صالح أو خانع في مدينة كانت قفصاً، وصارت أضيق من جحر.
تحية لزكريا تامر في ديمومته، وليس فقط في لحظته التي استطاعت أن تكثف عدداً يصعب إحصاؤه من لحظات الاختلال الاجتماعي، والسياسي، التي يفضي توتّرها، وتواترها في النصوص المؤسسة لدى زكريا، إلى أن تنصهر في أقانيم الديمومة التي يترفّع فيها النص المؤسس عن قابليّة الزوال.