وفق رتابة عمياء سلمت المفتاح للرتاج،ثم دخلت البيت واتجهت إلى المطبخ.
وبعد أن مررت بنظراتي مروراً سريعاً على المجلى والأرضية فتحت باب البراد. لقد استشرى الفراغ.. بطريقة مرعبة نفذت شرحات اللحم والجبنة واللبنة والخيار.
قطعة خبز صغيرة لن تلهم معدتي الشبع.. لن تسكت شراهتها التي تذرعت بالجوع لتلتهم زغاباتي المعدية التهاماً معجوناً بالوجع. لو أن بعض العمال أدركوا لون العذاب الذي أعانيه في البيت والورشة لهرولوا إلي، واعتذروا عن نقائصهم ونكدهم الذي وصل اليوم إلى القمة.
هه؟، اعتذروا؟. السذاجة تجعلني أحياناً أتوهم أشياء مضحكة. وأين يذهب شعارهم المرفوع دوماً؟.»ربي أسألك نفسي». لماذا يتعاطفون معي ويهتمون بمهندسة مثلي لا سند لها سوى الشهادة الجامعية؟.
أليس منها أستقي الشروط الفنية التي أطالبهم بتنفيذها فتؤكد تفوقي عليهم؟.
ربما يلعنون _في سرهم _ الساعة التي جاؤوا فيها إلى مشروع تديره امرأة !.
والأنكى أنها تأمرهم بما لايرغبون فيه على الإطلاق : الإلتزام بأخلاق العمل. أظن بعضهم يعتبرونه الهراء.
هذا النهار أرهقوني بمنغصات لا أدري كيف تجمعت وقت الصب.
ليس هذه الساعة، إنما البارحة كان علي أن أملأ الثلاجة بالطعام. «من يوم يومه» صب البيتون هو البلاء بعينه. لا بل إنه جهنم. نصف العمال يغيب ونصفهم يحضر.
حتى الآن لم أفهم لماذا تحولت أثناء الصب إلى قطعة جمر !. صوتي توهج،ومزاجي احتد.
وهأنذا.. من أجل خرسانة مسلحة أنطفئ كأي عود كبريت.. يستهلك جسدي شيئاً فشيئاً وما زلت أحارب.
لقد تبدد العمر.. مظهري دمغه الإهمال جراء وقتي المشحون بأمور العمل.
كأشعة شمس تموز يلفحني شعور بالقنوط. ولن أكرس نظرة ثانية وثالثة لحذائي الرياضي الذي علقت به كل أنواع الأترية. سأسعى جاهدة لردم هوة الجوع.
لم تحز قدمي إلا على طرف حيوية، من الخطوة الأولى في الشارع بانت مشيتي مثل شعلة تنوس تدريجياً. لكن الزحام احتواني بأصناف مختلفة من الصخب. هناك، عند عربات الخضار اندلق البشر. كقطرات مطر عزيز بقعوا الرصيف بلهاث أسرع وانقطع وحار وانتشر.
كان الصبي الذي أراه يومياً جالساً إلى يمين صيدلية البلسم. بنظراته المترقبة كان يحاول اصطياد حذاء متسخ ينظفه بقماشته الصوفية الصفراء. غير أن أداته الشاغرة أعطته فسحة من التسلية. راح يهز الفرشاة وبخفة يرفعها في الهواء ثم يلتقطها بلا عناء.
لم يخطر في بالي يوماً أن أضع قدمي على الحديدة الأفقية، وأختبر ذاك الشعور الأشبه « بحقارة شيطانية».
أولاً لأن العرف يمنع امرأة من هذا التصرف الذي يمنحه للرجل بحرية فائقة، وثانيا ًلأني أمقت التعالي والتفاخر اللذين يصبان على إنسان آخر ذلاً وإهانة لا مبرر لهما.
ولكن ْ في تلك اللحظة بالذات كنت مستعدة لأهوي قدمي على الحديدة وليذهب إلى إبليس كل الأعراف والتقاليد. لقد هدني التعب.. ولم يكن ينقص سوى الأسى الذي نبق فجأة من ركام المشاعر الكهلة.
أشفقت على نفسي..خفق في قلبي حزن من نوع خاص على ماسح الأحذية المسكين. عاطفة ما امتدت إلى أعماقي ووخزتني بتقصير بالغ نحوه.
هل أرمي مئتي ليرة إلى كفه وأتابع المشي كأن أمراً لم يكن؟.
أم أخلع حذائي و أجلس قربه ريثما ينظفه فأدفع له؟.
قد يكون التصرف الأرعن أخف وطأة على كرامته من الأول الذي يسمه شحاذاً يقبل صدقة !.
لمحاً أغلف حذائي بنظرة، ثم أتأمل المارة بنظرات أشمل. في هذا الزحام يضيع الجمل. من مِنَهم يشغل باله بحذائي ؟. كان لايزال يفصلني عن الصبي بضعة محلات.. ونظرت إلىالحذاء بقلق. أبشع من ضبع كانت قذارته.. لا لست مضطرة إلى هذه «الشيطنة «. ولكنْ... يجب تنظيفه الآن قبل الغد.
وصوبت نظري إلى الصبي.. كان قد انهمك في حذاء رجل أربعيني مشط شعره بتسريحة غريبة.فوق الجبهة انتصبت خصلات كأشواك القنفذ، وخلف الرقبة هوجلت مجموعة شعر كذيل فرس.
تمهلت أكثر.. على أية حال لست وحدي المسؤولة عن معاناة البشر. أنا التي لا أعرف من أين تأتي تلك المشاعر المتناقضة والمبثوثة بين الطبقات الاجتماعية الأعلى والأدنى أكره هذه التصرفات المهينة.
الفقر والكرامة والذل والتواضع والمباهاة والتعالي والغنى والاستصغار والاحتقار والاحترام لم تعتمل في ذهني حينئذٍ إلا لتزيدني إرباكاً.
لعل إبليس ذاته راح يدفعني دفعاً كي أضع حذائي على الحديدة.
لكن صوت الرجل الذي صرخ ناهراً:
_العمى !. «وين عيونك»؟. كيف سأنظف الجوارب من «دهنة اللوز»؟.
سحبني بعيداً عن الصبي الذي تلونت ملامحه بأحاسيس مفزعة.وكان من السهل على امرأة مثلي أن تزرعها في قلبها المتعب المزروع بقبيلة من المنغصات والازعاجات والانفعالات.
هوجل: نام نومة خفيفة