في كتابه «الرواية الحديثة في مصر» يحاول الباحث ان يتصدى لدراسة إشكالية، لم تتبلور بعد بشكل كاف، هي علاقة الشكل الروائي بالبيئة الاجتماعية، متخذة من الإنتاج الروائي لروائيي الستينات ميدان عمله. يرى الباحث ان نقاد الأدب ومنظّريه في جلّ عملهم حتى الآن، يركزون على اجتماعية المضمون دون شكله. وبرغم الإلحاح المتواصل على ان الشكل لا ينفصل عن دلالته، إلا ان دراسة المضمون ظلت هي المهيمنة، في مثل هذه الدراسات، لزمن طويل نسبياً. وليس ثمة شك في اهمية هذا المنحى في سياق الوعي بظاهرة اجتماعية الأدب، لكن هذه الأهمية، وبعد ما يشهده النقد من ثراء معرفي وإجرائي، تفقد الكثير من مشروعيتها، فلم يعد مبرراً للناقد ان يحوّل النص الأدبي إلى معرض فحسب، للقيم الفكرية والاجتماعية، فالنص خبرة جمالية، ولذلك يتجه النقاد اليوم إلى تأسيس علم للنص، ينهض على كيفيات القول واستراتيجيات التشكيل، دون ان يعني هذا، القول بأولوية الشكل أو انفصاله.
يتألف الكتاب من مقدمة وعدة عناوين. ففي البداية يدرس الباحث ثلاثة نصوص من كتب الستينات، وهذه النصوص هي «أيام الإنسان السبعة» لعبدالحكيم قاسم، و»الطوق والأسورة» ليحيى الطاهر عبدالله، و»الزيني بركات» لجمال الغيطاني. وهي نصوص تلوذ بجماليات التشكيل الفلكلوري والتراثي، وتعتد بأنها تبحث عما يشكل عناصر عضوية في الثقافة القومية.
ويرى الباحث أن النصوص الثلاثة بالرغم من أنها تلجأ إلى تقنيات واستراتيجيات بنائية تنهل من معين واحد هو الذاكرة المصرية، إلا ان لكل نص هويته الفنية الواضحة وتمايزه. ففي النص الأول وهو رواية «ايام الإنسان السبعة» لعبدالحكيم قاسم، نلمس كيف استطاع الكاتب ان يعبّر عن أيديولوجيا الادراك العامي للدين، كما يتجسّد في الطرق الصوفية، عبر وسائل تقنية تنتمي إلى الثقافة الهامشية المحاصرة بالتحديث، وهو ما يتضح جلياً في تطويع طرائق الوصف والسرد، لايجاد عالم بالغ الخصوصية، عن تاريخ جماعة صوفية عامية، مما دعانا إلى ان نرى في التقنية الأساسية استطراداً في وصف طرائق السمر الريفي ولجوءاً إلى الماضي، واستخدام الحكايات والخرافات والأشعار الصوفية لايجاد عالم خاص لخصوصية ظاهرة الدراويش. اما في القصة الطويلة «الطوق والأسورة» ليحيى الطاهر عبدالله يلمس الباحث ضرباً آخر من الصياغة والتشكيل، ينهض على الجماليات الفولكلورية من مواويل قصصية وحكايات شعبية وبكائيات، واضعاً الكثير من مواصفات الرواية في سياق يخضعها لمنطق الثقافة الشعبية.
وإذا كان عبدالحكيم قاسم ويحيى الطاهر يلوذان بطرائق تشكيلية تنتمي إلى الثقافة التحتية، التي تشكل وجدان أبطالها ورؤيتهم للعالم، فإن جمال الغيطاني يلجأ إلى الموروث المدوّن في «الزيني بركات»، وبخاصة طرائق القص التاريخي لدى ابن اياس، حيث يضحى التاريخ قناعاً، ينظم انفعال منتج النص إزاء واقعة، ويمنحه النظر إلى الواقع المعقد من زوايا متعددة.
ويعتبر الباحث ان لجوء هذه الروايات إلى الذاكرة التاريخية سواء أكانت شفاهية أم مدونة، لا يعني بحال ان الكاتب يقوم بمحاكاة نصوص معينة رغبة في الفرار من محاكاة الواقع، وإنما نحن مع محاولة جديدة لصياغة الواقع عبر طرائق تنتمي له، فتساعد على تجليته وإنمائه نصياً، دون تبسيط أو تزييف.
في القسم الثاني يقوم الباحث بدراسة روايات: «رامة والتنين ـ الزمن الآخر» لأدوار الخراط، و«مالك الحزين» لإبراهيم أصلان، و»نجمة أغسطس» لصنع الله إبراهيم، مركزاً على كيفيات وضع انجازات الرواية الغربية، في سياق نصّي يعبّر عن الواقع المصري والعربي.
ويضع الباحث هذه النصوص في إطار النصوص الأخرى لهؤلاء الكتاب التي لم يتعرض لها هنا، محاولاً ان يبرز الدال في ارتباطه بالمدلول، لكن مع تركيز على الأول، ومتعاملاً مع الشكل بوصفه آلية تكوّن النص وكيفيته ولذلك لم ينزلق إلى ما يسمى «التقنية» فالتركيز على التقنية يعني رصد وسائل التشكيل، ويعني رصد استراتيجيات البناء ودورها، ثم محاولة تبين علاقتها بالمرجع ودورها في تنظيم الدلالة. في هذا كله يؤكد الباحث على ما يقوله النص وما ينشق عنه من صدوع.
وحول ثنائية ادوار الخراط المكونة من روايتيه «رامة والتنين ـ الزمن الآخر» ينظر الباحث إلى هذه الثنائية كأي عمل أدبي ثري، حاملة لإمكانية تعدد التفسيرات، وهو أمر لا يأتي عبثاً أو اعتباطاً، وإنما يقصده قصداً، فالسعي إلى انتاج نص إشكالي، يعني الفرار من النص المغلق على تفسير واحد، والاحتفال بأن يكون النص، على عكس ذلك، حمّال أوجه من التفسير والتأويل.
والقارئ للروايتين يلمس انه إزاء إمكانية لتعدد التفسيرات، وليس عليه في هذه الحالة سوى التقاط عنصر أو أكثر ثم تنميته وإخضاع بقية العناصر لصالحه. ويتساءل الباحث في معرض حديثه عن رواية «رامة والتنين» هل نحن إزاء قصة حب؟ أم إزاء قصة مثقفين راديكاليين في وقت محدد؟ أم إزاء صياغة روائية لرؤية عن الوطن وتاريخه ومشكلاته.
وأول ما يتبادر إلى الذهن اننا إزاء قصة حب إشكالية لا يقنع فيها الحبيبان بممارسة علاقتهما تبعاً لشروطهما، وإنما يخوضان في أشكال متنوعة من الممارسات والعلاقات والحوارات، التي لا تفصح فحسب عن مثقفين مصريين راديكاليين، بل تشير إلى محاولتهما ومحاولة منتجهما ان يحوّل الواقعة المعينة، واقعة الحب، إلى تجربة عامة يتحدث فيها عن الحب، فاذا بنا مع قضايا تجريدية تطال الإنسان، وما ينطوي عليه من خير وشر، وخسّة وأصالة.
في «الزمن الآخر» يحدث تغيير في الرؤية، ومن ثم نرى في الروايتين ثنائية لا رواية من جزأين. ويطرح الباحث سؤاله: ما هو المتغير وما مداه؟ عبر رحلة طويلة من العراك الجسدي والفكري، يصل البطلان إلى زمن آخر، فيكتمل الخلق. في «رامة والتنين» يلتقي العاشقان ستة أيام، وفي «الزمن الآخر» يكتمل الخلق، تصبح رامة مبررة لميخائيل، ويشعر ميخائيل انه، أخيراً اجتاب أعمق ما فيها وامتلكه. لقد فهمها فأصبحت مبررة وأضحى قادراً على تملكها، واستبدلت هي بتعبير «صداقة غرامية» تعبير «الحب» والمنح والعطاء، كأنها وجدت أخيراً تحققها الوحيد، ومن ثم، تبدو الثنائية الروائية بحثاً عن الذات، أو رحلة تكتشف فيها رامة ذاتها، وتئوب من عناء رحلتها إلى تحقق مكتمل. عن «أسطورة المكان في رواية مالك الحزين» يعتبر الباحث هذه الرواية نموذجاً متميزاً في وضع انجازات الرواية الغربية في سياق مغاير لسياقها الذي نشأت فيه.
ذلك أنها، بداية، تتبنى العيش اليومي ومن ثم تخضع لآلياته، وتقلب دلالات غيره لصالحه. انها تراهن على الملموس الصلب، القائم هناك في الحياة، يكاد لوضوحه وجلاء دلالاته، ان يكتسب فعالية ذاتية. بيد ان هذه الصلابة في العيش الواقعي لا تعني الركون إلى وضوح دلالاته، وإنما يدخل منتج النص في ضرب من الصراع مع هذا الواقع، بغية تنميته وتنظيمه، بحيث يمكنه إعادة إنتاجه دون السقوط في الصراخ الأيديولوجي، الناجم عن نبالة الكاتب كمواطن ورغبته في إغناء نبالة الفقراء المقاومين لضراوة هذا الواقع. حينئذ تجاوز العلاقة بين المنتج وموضوع إنتاجه هيمنة طرف على آخر، وتؤول إلى ندية في الفعالية والتفاعل، أسّها الامتلاك.
حينئذ تتحقق وظيفة التشكيل وقيمته من حيث انه كيفية بناء، ومن حيث إن النص علامة، مدلولاتها منتشرة في كل جزئياتها، فليس ثمة أمامية لأحد وجهي العلاقة، لأنه ليس ثمة طرفان يتواجهان، وإنما نحن مع نص هو دال ومدلول في آن. ودلالة النص تشير إلى نمط كتابي محدد، ينتصر للدقة لا للوضوح.
ويتساءل الباحث: لماذا يصرّ الكاتب على منح المكان تلك البطولة المنفردة، فإذا تذكرنا ان الرواية كتبت عن السبعينات في مصر وفي اهابها، تكشفت لنا دلالة مهمة خاصة بالرواية بوصفها خطاباً مضاداً للأيديولوجيا في وجه من وجوهها،
فعلى حين تقوم الدولة التابعة بالتفريط في المكان، بحلّ مشكلة التراب الوطني المحتل في إطار خطة المركز الامبريالي الدولي، وما نتج عن هذا المنحى من تغيرات في بنية المجتمع وثقافته وأيديولوجيته السياسية، يقوم نص «مالك الحزين» بتحويل المكان المتعين من مجرد بقعة جغرافية محددة معينة إلى رمز للوطن ومستقبل من يعيشون فيه.
عن استراتيجيات تعدد اللغات والمنظورات في رواية «نجمة أغسطس» لصنع الله إبراهيم، يرى الباحث ان هذه الرواية طويلة ذات طموح ملحمي، اذ تحاول تقديم رؤية متكاملة لحركة المجتمع والتاريخ المصريين، من خلال بناء روائي جديد ومتميز، بالرغم من انها مركبة من عدد من الأشكال المتباينة إن لم تكن متناقضة. وأول ما يسترعي انتباه القارئ، بل يصدمه، هو ذلك الشكل الغريب الذي بنيت عليه. فالرواية تبدأ بالقسم الأول الذي يتكون من أربعة فصول، ثم يليه قسم ثان، وهو فصل طويل مثقل بالتجريب والتعقيد والتداخل، يليه القسم الأخير حيث يبدأ بالفصل الرابع فالثالث فالثاني فالأول، أي انه يناقض القسم الأول ويوازيه.
ويبدو هذا التقسيم قد انطوى على قدر من اللعب الشكلي، ومن هنا يبدو مناقضاً للرواية بشكلها التقليدي الكلاسيكي. ويزداد الأمر صعوبة وتعقيداً حين نفاجأ بهذا النظام الغريب للأزمنة، فنحن أساساً مع زمن سائد هو زمن بناء السد العالي، ومع مكان سائد هو مدينة أسوان، لكن المكان يتسع ليصبح مصر من أدناها إلى أقصاها «الإسكندرية ـ القاهرة ـ الواحات... الخ» والزمان يتراجع إلى الخلف ليقدم لحظات تاريخية «رمسيس ـ الاحتلال الانجليزي». إننا إذن مع مغامرة روائية جديدة على الرواية العربية. فضلاً عن رحلة السارد إلى أسوان، توجد عدة مستويات زمانية ـ مكانية، فإذا نحن في خضم هذا النص الكثيف نكتشف زمناً آخر هو زمن المعتقل. ليس في الرواية لغة واحدة وحيدة، وإنما نحن مع لغات عدة بسبب تعدد أزمنة الرواية.
الكتاب: الرواية الحديثة في مصر
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب