وكيف أن العرب لا يستفيدون من شيءٍ ضمن إطار المُعطى هِبَةً من الغرب المُثَقَّف غيرَ أن أدونيس كثيراً ما يُساءُ فِهمهُ حتى من قبل رجالات الفكر العربي وهذا ما نتلمَّسهُ بين الفترة وشقيقتها من خلال المقالات التي تهاجمهُ منتَقِصَةً من فكرهِ ظالمينَ بِذَلك كفاءة أدونيس وعملهِ المُتْقَن والغير إعتباطي في تقسيم الغرب إلى قسمين، قسمٌ يسيء إلى العرب من خلال إعتدائه على الإسلام واتهامهِ بالإرتباط بالعنف» وفقَ رأيهم طبعاً ورأي أدونيس فيما بعد ولكن هناك فرقٌ شاسع بين العنف الذي يقصدهُ أدونيس وبين العنف المعبَّر عنهُ غربيَّاً» وآخَرٌ صَديقٌ مُسْتَشْرِقٌ يبحثُ في خزانات الآثار عن مخطوطاتٍ سيَرٍ تروي العربَ وثقافتهم وحضارتهم التي أثَّرَت على العالم أجمعين، إن أدونيس يمكن اعتبارهُ المثقَّف العربي الأوَّل الذي فَتت التراث العربي دراسَةً وتمحيصاً مُقَدِّمَاً رؤيةً جديدة لهذا التراث مُحاولاً برمجتهُ ليغدو وثيقةً مؤكِّدة على أن القَديمَ العربي «تراثيَّاً «هو أشَدُّ حداثَةً من العربي الحديث الرَّاهن، كما في كتابهِ «ديوان الشعر العربي «هذا الكتابُ الضخم الذي هو خُلاصَةٌ لقراءات أدونيس على مدار سنينٍ طويلَةٍ.
في هذا السياق وعلى غرار العباقرة «بورخيس– أوكتافيو باث....» يتم بين الفترة والأخرى إستضافة أدونيس من قِبَل إحدى المؤسسات ليكونَ ضيفاً استثنائيَّاً يُقَدِّمُ رؤيَتَهُ عَبْرَ مُحاضراتٍ يتلوها هادئاً على مسامعِ جمهورهِ العريض المتلَهّف لكلامهِ العذب وأفكارهِ الصائبة، ثُمَّ ليُفْتَحَ بابُ الحوار المودي إلى آفاقٍ مُسْتَحْدَثَة وأيضَاً إفراغُ الكلام الجاري على الورق ليبقى كتاباً وثيقَةً يمكنُ الرجوع إليها في أي وقت، وهذا ما حَصَلَ عندما استضافَت القاهرة أدونيس بدعوةٍ من مكتبة الإسكندريَّة ضمن تقليدها المتعارَف عليهِ فيما يُسَمَّى ببرنامَج «الباحث المقيم» والذي استمرَّ من 5 إلى 15 نوفمبر من العام 2006، تَمَّ جمع تلك المحاضرات في كتابٍ صادر عن دار التكوين بدمشق، يتضمَّنُ الكتاب المحاضرات التالية التي ألقاها أدونيس: « الثابت والمتحوِّل بعد 40 سنة كيف كنتُ سأكتبهُ اليوم» و « ديوان الشعر العربي» و « الشعر والفكر» و « الشعر والهوية « و أيضاً ضَمَّ الحوارات التي أُجريَتْ معهُ حولَ محاضراته في الإسكندريَّة،
في محاضرَته الثانية يتحدَّث أدونيس عن كتابهِ المعروف ديوان الشعر العربي وكيف أنَّهُ خاضَ معركتين فنيتين خلال جمعهِ لمقتطفاتٍ من الشعر العربي القديم المعركةُ الأولى هي معركة الذاتية والوجود التي تعتبر معياراً شعريَّاً أساسياً والثانية معركة الذائقة التي كانت مشحونَةً باللغة- الدين، مُدافعاً عن الجاهليَّة ومطالباً بالتخلي عن هذا الوصف إحتراماً للغتها التي نُزِلَ بها الوحي، أمَا محاضَرَتُهُ المعنونة ب «الشعر والفكر» فقد ناقش فيها علاقة الشعر بالفكر و وصف التاريخ العربي الذي هو سلسلة من التناقضات بينَ الفكر الديني والفكر الشعري، وحَوَت محاضرة أدونيس «الشعر والهويَّة» دراسَةً عن الأصل وهيمنة الصورة حيثُ الأصلُ مُفْتَقَدَاً: لا الأصلُ اليومَ هو الأصل بل صورَتَهُ، والصورةُ نسخةٌ، وفي كل نسخةٍ يكمنُ مسخٌ بشكلٍ أو بآخَرٍ، بطريقةٍ أو بأخرى. النَّسخُ_المَسخ، تلكَ هي ثقافتنا العربية السائدة.
أمَّا محاضرَتهُ الأكثر أهميَّةً في هذا الكتاب هي «الثابت والمتحوِّل بعد 40 سنة كيف كنتُ سأكتبهُ اليوم» حيثُ دراسَةٌ مُصغَّرة عن كتابه الآنف الذكر الذي أحْدَثَ ثورةً في النقد العربي موضِّحاً للجمهور كيف كان سيكتبهُ اليوم بعد التغييرات الحاصلة في فكر أدونيس والواقع العربي على حَدٍّ سواء ويمكن أن نعتبر هذه المحاضرة ثورةً أخرى تُضافُ إلى رصيد أدونيس في معاركهِ التي يدافعُ فيها عن ضرورة النهوض بالثقافة العربية كونها في طريقها إلى الإندثار، ولا شَكَّ أن كتابهُ «الثابت والمتحوِّل» شَكَّلَ رؤيةً نقديَّة وتعرية شاملة للفكر الإسلامي العربي ماضياً في الحديث عن الشعر الجاهلي، وضمن هذه المحاضرة يعرض أدونيس موضوع نهاية التاريخ العربي والحضارة العربية وهو موضوعٌ قديمٌ حديثٌ لديه، يوَضِّح أدونيس نهاية التاريخ العربي في الوقتِ الذي يرفض فيهِ العرب إستخدام هذه المفردة واستبدالها بمفرداتٍ من مثل: تدهور- إنحطاط– نكسة، فجوهر التأزُّم العربي من وجهةِ نظر أدونيس كامنٌ في أنَّهم يأبون الخروج من ذاكرتهم بالإضافةِ إلى رفضٍ غريبٍ مُعنَّدٍ للإعتراف بأن التاريخ ينتهي وأن تاريخهم الذي يصرّونَ على الإقامة فيه إنتهى ومن المستحيل بمكان العودة إليه ناهيكَ عن إقامة العرب الدائمة في طور التوهُّم والتفكير من منطلقٍ ليس إلّا توهماً، بالطبع يميز أدونيس بين النهاية التي بوصفها «تاريخاً منتهياً» وبينَ النهاية التي بوصفها «نهاية البشر» والخلطُ الحاصل بينَ المفهومين حتى من لَدُنِ العرب العاملين في شَتَّى حقول الفكر، حيثُ «أن العرب انتهوا بالمعنى الحضاري لكننا لا نعترفُ بذلك», هذا التصريحُ الذي بسببهِ خُلِقَ لأدونيس المفكِّر أعداءٌ كُثُر وغيرها من التصريحات الذكيَّة التي مابَرِحَ يطلقها بين الفترة والأُخرى مؤدّيةً لتزايدِ الخصوم واتهامهِ بأنَّهُ من مفسدي الثقافة العربية ومن أعداء تراثها وكارهي عِزَّتها كما فعلها الناقد الكبير رجاء النقاش ذات مرَّة.
ما يجدرُ الإشارة إليه إنَّ مواضيعَ المحاضرات موزَّعةٌ في غيرِ مكانٍ من كتب أدونيس السابقة ككتابهِ «سياسة الشعر» على سبيل المثال، غير أنَّ المُختَلِف هنا هو تقديمُ أفكارهِ بطريقَةٍ تدريسيَّة تُمَكِّنُ من إيصال الفكرة إلى المتلقي بأسلوبٍ شفوي مُعَبِّر.
ربما باتَ من الضروري أن نصغيَ إلى آراء أدونيس بجديَّةٍ أكثر على خلفيَّةِ إيمانٍ أساسي بأنَّ التاريخ يهبُ بين الحينِ والآخر رجلاً يُفَكِّرُ عِوَضَاً عن شعبٍ كامل، وأدونيس من بين تلكَ الهبات التاريخيَّة النادرة.
الكتاب: محاضرات الإسكندريَّة
المؤلف: أدونيس
الناشر: دار التكوين