والاعتقاد السائد اليوم أن مثل هذا القانون بات ضرورة في ظل ما تشهده بعض مصادر المياه من عشوائية وفوضى في الاستثمار ,سواء لجهة مياه الزراعة أو الشرب والاستخدامات الأخرى المتعددة. وأنه من المأمول أن يقوم هذا القانون في تحديد وتنظيم آليات استثمار المياه والعمل على استخدام أساليب حديثة من شأنها الاسهام في ترشيد عمليات الاستخدام والحفاظ على المخزون المائي تحسباً من التقلبات المناخية التي تقل فيها معدلات الهطل المطري مثلما كان واقع الحال قبل بضع سنوات.
ولأن القانون لم يقر بعد ويمكن وعن غير قصد تجاهل بعض النقاط الأساسية والجوهرية, فإنه من المفيد لفت الأنظار إلى عدد من النقاط التي يفترض أن لا تذهب عن أذهان الذين سيعكفون على صوغه أو عن الذين أسهموا في مناقشته في أروقة الحكومة أو في مجلس الشعب,وعلى رأس هذه النقاط: السعي ما أمكن إلى جعل الري الحديث من أبرز القضايا التي سيتضمنها القانون.وذلك بسبب ما يتركه هذا النمط من الري من آثار ايجابية لجهة تخفيف العجز المائي أولاً,وزيادة الغلات الزراعية ثانياً.
وما يفيدنا في التركيز على هذا الجانب, هو أن وسائل الإعلام والندوات الزراعية والاجتماعات الرسمية في المؤتمرات والاجتماعات الفلاحية, كلها كانت بطريقة أو بأخرى تترك انطباعاً ,بأن هذا النمط من الري كان على مدار السنوات الماضية قد طال غالبية المساحات الصالحة للزراعة,وأن الري في الأساليب والأنماط القديمة المعروفة بالتطويف قد ذهب وإلى غير رجعة.
غير أن مثل هذا الانطباع لم يكن على ما يبدو صحيحاً,بل إن النتائج الفعلية على أرض الواقع كانت مخيبة للآمال وإلى حدود كبيرة,فأرقام وزارة الزراعة ومعها الأرقام التي يشير لها هذا المسؤول أو ذاك في الحكومة ,كلها تشير إلى أن النسبة الإجمالية للأراضي المروية بالطرائق الحديثة لم تكن تصل إلى أكثر من 16 بالمئة في أحسن الأحوال..وهو ما يعني أنه في حال تم تحويل 65 ألف هكتار سنوياً إلى الري الحديث مثلما كان واقع الحال خلال عام 2003 ,والذي شهد أعلى نسبة في التحول,فذلك يعني أن عمليات تحويل كافة المساحات الزراعية بحاجة إلى ما يقارب 14 سنة .ومن باب التذكير لا أكثر ,فإن توجهات وزارة الزراعة للتحول إلى الري الحديث كانت قد بدأت منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي,وتوقعات المختصين في هذا الشأن كانت قد أشارت في حينها ,أنه ومع مطلع القرن الحادي والعشرين الذي استقبلناه منذ نحو خمس سنوات,ستكون كافة المساحات مروية بهذه الطريقة,
غير أنه ولأسباب يطول شرحها ومناقشتها ,فإنه- وكما ذكرنا- لن تكون النتائج مرضية ولا حتى ضمن الحدود الدنيا.
يتعين على القانون الجديد أو التشريع المائي الجديد,أن يتضمن بعض النواظم والإجراءات التي تضمن إمكان التزام الفلاحين في هذا النمط من الري. والنواظم والضوابط التي نعنيها لا تقوم على لغة تقديم المعلومات للفلاحين التي تبين فوائد هذا الري,فباعتقادنا وعلى مدار السنوات الماضية ومن خلال المنابر الإعلامية والمؤتمرات الفلاحية ,يعلم هؤلاء أن الري الحديث يساعد على توفير ما نسبته 50 بالمئة من مياه الري,مثلما يسهم في رفع إنتاجية وحدة المساحة إلى نسبة تصل في كثير من الأحيان إلى ما يزيد على 35 بالمئة..كل هذا لن يغيب عن أذهان الفلاحين وليسوا بحاجة إلى تقديم هذه المعلومات لهم من جديد, وإنما هم بحاجة فعلية كي يأتي القانون على مضامين تقوم على الزامهم بالري الحديث وإنما ضمن شروط تضمن لهم تقديم التسهيلات التي توفر نفقات التنفيذ,لأنه وكما هو معلوم,فإن تكاليف ومستلزمات هذه التقنية الحديثة مرتفعة وبحاجة إلى دعم ومؤازرة من جانب الحكومة.
وبالمناسبة نحن هنا لانقول بضرورة تغطية النفقات وتأمين المستلزمات بصورة مجانية, وإنما يمكن أن تتحمل الحكومة جزءاً من التكاليف,وإذا كان ذلك ليس ممكناً فإنه وعلى الأقل تقديم القروض الميسرة لهم والمعفاة من الفوائد.وما يدفعنا إلى قول هذا الكلام,أنه وفي أكثر من مناسبة- وعلى وجه التحديد في المؤتمرات الفلاحية المتعاقبة- كانت غالبية التوصيات والقرارات التي تخرج بها المؤتمرات تشير وبشيء من المفاخرة إلى ضرورة تقديم القروض للفلاحين مع الاعفاء من الفوائد وتسديدها على مدار فترة زمنية تتسم بالمرونة وتصل إلى مايزيد عن عشر سنوات, لكن ومن خلال الحضور الكثيف لشكاوى الفلاحين في المنابر الاعلامية أو حتى في الندوات,تبين أن تلك التوصيات لم تخرج عن اطار الأمنيات,وهو ماجعل أصحاب الأراضي الزراعية من الفلاحين يحجمون في الاقبال على الري الحديث...وكانت بعض الأخبار التي تسربت من وزارة الزراعة مؤخراً أشارت إلى احداث صندوق خاص بالري الحديث. ولا ندري إلى الآن ما الشروط للحصول على القروض وفيما إذا كانت تلبي التطلعات التي تحدثنا عنها أم لا... ويبقى الأمل في أن يسعى التشريع المائي الجديد للوقوف مطولاً عند هذه القضية..وبالمناسبة فإن النقطة الأخرى التي يتعين معالجتها من جانب وزارتي الري والزراعة, السعي ليس فقط لتقديم تسهيلات في حصول الفلاحين على القروض في هذا الجانب, وإنما لابد أيضاً من اعداد الخطط والدراسات التي توفر قائمة من الشروط والاستحقاقات الأخرى,فعلى سبيل المثال وليس الحصر, سبق لبعض الإخوة الفلاحين الذين أخذوا بهذا النمط من الري أن حصدوا الفشل, ولم تشجع التجربة في الاستمرار والسبب في ذلك حسب قول الفلاحين إن الكثير من مصادر المياه تكون مخلوطة بالمياه المالحة أو الصرف الصحي وهو مايسبب انسداد الأنابيب,ما يدفع إلى العدول عن الفكرة والعودة مجدداً إلى الري القديم..مثل هذا الكلام لابد من التوقف عنده مطولاً.وبمقدور وزارة الزراعة ومعها وزارة الري الوقوف على أي مشروع مستقبلي للتأكد سلفاً أن مصادر ا لمياه عذبة وليست ملوثة.
وأما النقطة الأخرى التي لاعلاقة لها بالري الحديث وعلى القانون أيضاً أخذها في الحسبان, فهي تتعلق في الطرائق والآليات التي سيتم من خلالها التعاطي مع الآبار المخالفة .فهذه الآبار ولأنها نفذت ضمن آليات عشوائية وبعيدة عن الحسابات والدراسات المائية المختصة,فقد أسهمت وساعدت في بعض المناطق على جعلها فقيرة في المياه,بل ويمكن القول إن هناك عشرات أو مئات المناطق افتقد سكانها لمياه الشرب أو حتى لمياه الزراعة بسبب كثافة حفر الآبار ,حتى إن بعض الدراسات المختصة التي سبق وصدرت عن مؤسسة مياه الشرب في دمشق أشارت إلى أن منسوب مياه نهر بردى كان قد تراجع ليس بسبب تراجع الهطل المطري وإنما أيضاً بسبب التعدي على سرير النهر من خلال الحفر العشوائي وغير المبرر لها.
وسبق للسيد وزير الري وخلال مناقشة مشروع قانون التشريع المائي في مجلس الشعب أن أوضح وبلغة تتسم بالشفافية,أن هناك 150 ألف بئر مخالف في القطر, وهذا الرقم الأخير ورغم أنه ليس عادياً فبعض التوقعات غير الرسمية تشير إلى أن الرقم يمكن أن يكون مضاعفاً.ولأن الأمر يستلزم المزيد من الحزم والتشدد في هذا الجانب ,فإنه يفترض بالتشريع المائي المرتقب معالجة هذا الجانب والتوقف عنده مطولاً,من أجل ردم ما يستلزم الردم,وتسوية الآبار التي تستدعي الضرورة في الابقاء عليها... إلى جانب تضمين هذا التشريع الشروط التي يسمح من خلالها حفر الآبار,وصوغ قوانين واضحة أو عقوبات رادعة وقاسية للذين يتجاوزون هذه الشروط.
ندرك أنه ليس من السهل الإحاطة بكل ما يستلزم التشريع المائي الجديد.غير أن العمل من جانب الجهات الرسمية لتضمينه كافة القضايا الملحة لن يكون أمراً صعباً ,خاصة وأن مشروع هذا القانون كان قد بحث ودرس وأشبع نقاشاً في رئاسة مجلس الوزراء منذ أكثر من عامين .
كما وسبق أن تم عرضه على مجلس الشعب خلال الدور التشريعي السابق والحالي. ولهذه الأسباب يفترض أن لا يرى النور إلا بعد أن يكون قد استكمل من كافة جوانبه رغم أن الأمر لا يخلو من صعوبة بسبب تعدد مصادر المياه في بلدنا والحالة العشوائية والفوضى التي تحيط باستثمار بعض هذه المصادر.ففي سورية هناك 7 أحواض مائية تمتد على كامل مساحة الوطن ...ويكفي الاشارة إلى أنه في المحافظات الساحلية هناك نحو 150 نبعاً مجهولاً أي غير معروفة المصدر والموقع.
وأما ماهو معروف منذ زمن طويل, فالغالبية منها تصب في مياه البحر ولا يستفاد منها مع أنها الأكثر عذوبة ونقاءً.
في كل الأحوال,فإن صدور تشريع مائي ينظم آليات استثمار المياه ويحدد بلغة واضحة العقوبات التي ستلحق بالذين يتجاوزون الشروط الصحيحة للاستثمار..,هذا الصدور يعني الخروج من حالات الفوضى والعشوائية التي أحاطت ولوقت طويل بهذه الثروة.كما أن هذا القانون سوف يسهم في توفير كميات كبيرة من المياه ومنع الوقوع في عجز مائي, خاصة في حال مواجهة مواسم تتسم بالجفاف وقلة النسب الهاطلة من الأمطار.